63
كان المُلَّا سعيدٌ يُكِنُّ محبَّةً جَمَّةً لكبار العلماء والشيوخ في شرقيِّ الأناضول، كالشيخ «سيِّد نور محمد» والشيخ «عبد الرحمن التاغي» والشيخ «فهيم» والشيخ «محمد الكُفْرَوِيِّ» لِما نَهَل على أيديهم من دروس العلم والعرفان، كما كان يولي مزيدَ محبَّةٍ للشيخ «أمين أفندي» و«المُلَّا فتح الله» والشيخ «فتح الله أفندي».
ذهب المُلَّا سعيدٌ إلى «وان» تلبيةً لدعوة «حسن باشا» [هو «حسن حقي باشا»، كان واليًا على «وان» في الفترة بين عامَي 1877م، و1884م، وبقي بها يتمتع بمكانةٍ مرموقةٍ حتى وفاته عام 1896م؛ هـ ت] إذْ لم يكن فيها أحدٌ من العلماء المشهورين، فأقام بها خمسَ عشرة سنةً قضاها في الدراسة والتحصيل، وفي التنقُّل بين العشائر تعليمًا وإرشادًا؛ وكانت له علاقةٌ وطيدةٌ مع الوالي وموظَّفيه طَوالَ تلك المدة.
وفي «وان» تشكَّلتْ لديه القناعة بأن علم الكلام بطرازه القديم لا يكفي وحدَه في هذا العصر للردِّ على الشكوك والشُبهات المُثارة حول الإسلام، وأنه لا بدَّ من تحصيل العلوم الحديثة [إنَّ العلوم التي اطَّلع عليها بديع الزمان في مرحلةٍ مبكِّرةٍ من شبابه قد هيَّأت له الأرضية اللازمة للخدمة القرآنية والإسلامية الجليلة التي سيقوم بها في المستقبل، ولقد وفَّقه الله تعالى بعد نحو أربعين سنةً من إظهاره هذه القناعة لتأليف كلياتِ رسائل النور التي حقَّقتْ تجديدًا في علم الكلام؛ المُعِدّون]، فراح يَجِدُّ في طلبها حتى حصَّل في مدّةٍ قصيرةٍ أُسسَ علومٍ شتى كالتاريخ والجغرافيا والرياضيات والجيولوجيا والفيزياء والكيمياء والفَلَك والفلسفة وغير ذلك من العلوم، واستوعبها حقَّ الاستيعاب بمطالعته الشخصية من غير تلقٍّ على يد أستاذ.
فمن ذلك أنه شارك في مناظرةٍ في الجغرافيا مع أحد معلِّميها، فاقتنى كتابًا في الجغرافيا ووعاه في غضون أربعٍ وعشرين ساعة، ثم ناظرَ المعلِّمَ في اليوم التالي بمقرِّ الوالي «طاهر باشا» فألزمه الحجة؛ وعلى نفس المنوال تَوَفَّر على مباحث الكيمياء اللاعضوية مدة خمسةِ أيام، ثم دخل في مناظرةٍ مع أحد أساتذة الكيمياء فألزمه الحجة؛ وعلى إثر هذا أَطلق عليه أهل العلم لقبَ «بديع الزمان» لِـما شاهدوا من عجيب أمره وغزير علمه وهو ما يزال بعدُ في مُقتَبَل الشباب.