68
توجَّه بديع الزمان إلى اسطنبول سعيًا لإنشاء جامعةٍ في شرقيِّ الأناضول، تُفتَتَح إما في «وان» وإما في «ديار بكر» ويُطلق عليها اسم «المدرسة الزهراء»؛ وقد صَوَّر أحد الكُتَّاب قدومَه إلى اسطنبول بقوله: «مِن جبال الشرق الشاهقة.. شعلةُ ذكاءٍ وقَّادٍ تتألَّق في سماء اسطنبول».
كان الوالي «طاهر باشا» قال للمُلَّا سعيد يومًا: لقد ناظرتَ علماء الشرق فألزمتَهم، لكن أيمكنك أن تذهب إلى اسطنبول فتُنازلَ الحيتانَ في ذلك البحر؟
وكان أولُ عملٍ قام به بديع الزمان عند قدومه اسطنبول [كان قدومه إلى اسطنبول في أواخر العام 1907م؛ هـ ت] أنْ دعا علماءَها إلى المناظرة، وعلَّق على باب غرفته لوحةً كُتِب عليها: هُنا تُحَلُّ كلُّ معضِلة، ويُجاب عن كلِّ مسألة، من غير أن نراجع أحدًا أو نسأله [لا بد أن نضيف هنا علاوةً على ما سبق أن حياة سعيدٍ النُّورْسِيّ كانت تسير وفق مسارٍ لم يكن من اختياره هو، كما صرَّح بنفسه عن هذا بإخطارٍ معنوي، وكما يُفهَم من خدمته القرآنية وجهادِه الديني المعنوي الشامل، فلقد أحسنتْ إليه العناية والرحمة الربانية أيَّما إحسانٍ برسائل النور في السنوات الثلاثين أو الأربعين الأخيرة من حياته؛ أي: لقد آتاه المولى سبحانه ذكاءً خارقًا وعبقريَّةً فذَّةً، وأحاطه بعنايةٍ عجيبة، تمهيدًا لما سيستعمله فيه مستقبلًا من خدمةٍ قرآنيَّةٍ جليلة؛ وبناءً على هذا ينبغي النظر إلى حياته وأحواله من هذا المنظور كما سبق بيانه في أول هذه السيرة.
ولقد قال لكثيرٍ من طلابه وإخوانه قبل عهد الحريَّة مُخبِرًا عن قيامِ خدمةٍ قرآنيةٍ جليلة: إنني أرى نورًا، وأرنو إلى المستقبل بآمالٍ عظيمة؛ وكان بقوله هذا يستشرف بحسٍّ قبل الوقوع خدمةَ رسائل النور الحالية، إلا أنه كان في ذلك الحين يظن أن الأمر سيتحقق في ميدان السياسة، فاجتهد بكل ما أوتي من قوةٍ حين كان في اسطنبول ليجعل السياسة أداةً في خدمة الدين والقرآن؛ المُعِدّون]، فجاءه مشاهيرُ علمائها جماعةً إثر جماعة يزورونه، ويطرحون عليه أسئلتهم وهو يجيب عليها إجابةً مسدَّدة، فوجد أهلُ العلم من غزارةِ علمه وهو بعدُ في سن الشباب، ومن قوة عبارته وبلاغتها، ومن عجيب أحواله وأطواره ما دفعهم لتقديره بإعجاب، حتى لقد وصفوه بأنه نادرةٌ من نوادر البشر، جديرٌ بلقب «بديع الزمان»؛ ولم يكن غرضُه من ذلك سوى أن يلفِت الأنظار