69
إلى ما في شرقيِّ الأناضول من جهودِ العلم والعرفان، وإلا فلم يكن يميل لشيءٍ من حب الظهور والأنانية، بل كان أبعد ما يكون عن التظاهر والتفاخر، ولئن كان نادرةً في الذكاء والحفظ والعلم والجرأة، فلقد كان نادرةً بالدرجة نفسِها بل أشدَّ في الإخلاص والصفاء، لا يطيب له شيءٌ من التصنُّع أو التكلُّف.
ووافق وجودُه في اسطنبول قدومَ أحدِ أبرزِ علماء الأزهر إليها في جولةٍ له، وهو الشيخ «بَخِيْت المُطيعي» مفتي الديار المصرية، فطَلَب منه بعض العلماء الذين غُلبوا في المناظرة أن يناظر هذا الشابَّ القادم من أقاصي جبال «كردستان»، فأجابهم الشيخ إلى ما طلبوه، وراح يتحيَّن الفرصة إلى أنْ سنحتْ ذات يومٍ حين انصرف الجميع من الصلاة بمسجد «أيا صوفيا»، وجلسوا في إحدى صالات الشاي، فأقبل الشيخ «بَخِيْت» نحو بديع الزمان بحضرة جمهرةٍ من العلماء وسأله: ما تقول في حقِّ الأَوروبائيَّة والعثمانية؟
ولم يكن مراد الشيخ من هذا السؤال أن يختبر علمَ النُّورْسِيّ الزاخر ولا ذكاءه الوقَّاد، وإنما أراد الوقوف على مقدار معرفته بشؤون العالَم السياسية، ومدى استشرافه للمستقبل.
فأجابه النُّورْسِيّ قائلًا: «إنَّ أوربا حاملةٌ بالإسلامية، فستَلِدُ يومًا ما؛ وإن العثمانية حاملةٌ بالأَوربائيَّة، فستَلِدُ يومًا ما» [هكذا وردتْ عبارة الأستاذ بمفرداتٍ مستعملةٍ في اللغة العثمانية، فـ«الأوروبائية» عاداتُ الأوروبيين وتقاليدُهم ونظامُ حياتهم، و«العثمانية» هي الدولة العثمانية، أما «الإسلامية» فالمراد بها دين الإسلام نفسه؛ هـ ت].
فقال الشيخ «بَخِيْت»: إن هذا الشابَّ لا يُناظَر، فإني أوافقه الرأي، إلا أن التعبير بمثل هذه البلاغة والإيجاز لا يكون إلا مِن «بديع الزمان» [لقد تحقَّق كِلا الأمرَين اللَّذَيْن أخبر عنهما بديع الزمان فعلًا كما قال، فمما يصدِّق هذا الخبر أنه بعد سنةٍ أو سنتين من إعلان المَشروطِيَّة، أُخِذَتْ كثيرٌ من العادات الأجنبية المخالفة للشعائر الإسلامية، وفُرِضتْ شيئًا فشيئًا في تركيا، بينما يُشاهَد اليوم حُسنُ القبول للقرآن والإسلام في أوروبا؛ المُعِدّون].