70
كانت حياة بديع الزمان في اسطنبول سياسيةً إلى حدٍّ ما، ولم يكن دخوله الحياةَ السياسية إلا نتيجةَ تفانيه في خدمة الإسلام، فقد كان على قناعةٍ من القيام بتلك الخدمةِ عن طريق السياسة، كما كان من أنصار الحرية على الدوام، ولم يتردَّد في معارضة جمعية «جون تُرْك» [«جون تُرْك» كلمةٌ فرنسيةٌ معناها الأتراك الشباب، وهي جمعيةٌ سياسيةٌ تأسست في اسطنبول عام 1865م، وضمَّت أبناء الطبقة الراقية ذوي الثقافة الأوروبية، ثم تحولتْ إلى حركةٍ سياسيةٍ معارِضة، وانتقل معظم أعضائها إلى أوروبا، وطالبت السلطان بإصلاحاتٍ على النمط الأوروبي، تتضمن فتح باب الحريات وإعلان الدستور وتأسيسَ حياة برلمانية، وتقليص الدين في الحياة السياسية والاجتماعية؛ وقد شكَّل أعضاؤها فيما بعد جمعيةَ الاتحاد والترقي التي سيطرت على مقاليد الأمور بعد إعلان المَشروطِيَّة، وخلعت السلطان عبد الحميد، وقَضَتْ على دولة الخلافة؛ هـ ت] عندما رأى من أعضائها الظُّلم والإجحاف، فقال لهم: لقد أسأتم إلى الدين، وتعدَّيتم حدودَ الله، واستخفَفتُم بالشريعة، وسوف تكون عاقبتكم وخيمة.
وبعد «إعلان الحرية» أو «المَشْرُوطِيّة» [تُعرَف المَشْرُوطِيّة بأنها صيغةٌ لإدارة البلاد تقوم على الحدِّ من صلاحيات السلطان وتقليصها لصالح الدستور والمجلس النيابي المُنتخَب من الشعب، وقد أُعلِنَت في الدولة العثمانية بتاريخ 24 يوليو/تموز 1908م، وأهم ما ترتَّب على إعلانها قانونيًّا: تفعيلُ جميع مواد «القانون الأساسي» أي «الدستور»، بما يقلِّص صلاحية السلطان، وإعادةُ تشكيل «مجلس النُّوّاب» أو «المبعوثين»، بحيث آلتْ إليه صلاحيةُ تشريع القوانين، وباتت الوزارة مسؤولةً أمامه إضافةً لمسؤوليتها أمام السلطان؛ هـ ت] أسس مع رفاقه المجاهدين «جمعيةَ الاتحاد المحمدي» التي سرعان ما انتشرتْ ولقيَتِ القبول، حتى إنه انضم إليها نحو خمسين ألف شخصٍ من مدينتَي «إزميت» و«أضا بازار» وما حولَهما إثرَ نشرِ بديع الزمان مقالًا عنها.
وكانت له خطاباتٌ يلقيها، ومقالاتٌ ينشرها في الصُّحُف الدينية، يحذِّر فيها باستمرارٍ من إساءة تفسير الحرية، ويؤكد على ضرورة أنْ تُفهَم المَشْرُوطِيّة على أنها المَشْرُوطِيّة المشروعة لا غير؛ وكانتْ هذه الخطابات والمقالات فريدةً في بلاغتها وقوة إقناعها وتأثيرها، حتى لقد استفاد منها كثيرٌ من أهل العلم والمشتغلين بالسياسة.
وكان يبشِّر في ذلك الحين أنَّ يقظة الأمة هي الفجر الصادق لسعادة آسيا والأناضول، غير أنه لا بدَّ للأمة من المسارعة لامتثال الأوامر الشرعية، وإلا فاتتْها تلك السعادة، وكان ينبِّه إلى أن كُلًّا من المَشْرُوطِيّة والحريَّة إن لم تُفهَما في إطارهما المشروع، ولم تُطبَّقا بما يوافق الشريعة خرجتا من أيدينا واستولت إدارةٌ مستبدَّة على مقاليد الأمور.
ونورد هنا نماذج من خطاباته ومقالاته، ومنها خطابه الذي ارتجله في اليوم الثالث من إعلان الحرية، ثم ألقاه مرةً أخرى بميدان الحرية في «سيلانيك» [مدينةٌ كانت ضمن أراضي الدولة العثمانية، استولت عليها اليونان أواخر العام 1912م، وتعدُّ اليوم ثاني مدنها أهميةً؛ هـ ت]، ونشرتْه الصُّحُف في ذلك الحين.