48
وبعد أيامٍ ذهب إلى قصبة «وَسْطان» للاستجمام، فلم تَكَدْ تبلغ إقامته بها شهرًا حتى توجَّه بصحبةِ شخصٍ يُدعى «المُلَّا محمد» إلى مدينة «بايزيد» التابعة لولاية «أرضروم»؛ وهنا بدأ تاريخُ تحصيله الحقيقي، إذْ كان مشتغلًا حتى ذلك الحين بمبادئ النحو والصرف، وقد بلغ متن «الإظهار»؛ [هو متن «إظهار الأسرار»، وهو متنٌ في علم النحو لتقي الدين محمد بن بير علي البِرْكَوي، ت 981 هـ؛ هـ ت] فعكف على تحصيلٍ فعليٍّ جادٍّ مدةَ ثلاثة أشهرٍ عند الشيخ «محمد الجلالي» في «بايزيد»، وكان أمره غريبًا حقًا، فقد أتمَّ جميعَ الكتب المقرَّرة للتدريس في شرقيِّ الأناضول بنجاح، بدءًا من «المُلَّا جامي» [المقصود كتاب «الفوائد الضيائية بشرح الكافية»، وهو كتابٌ شرح فيه مؤلِّفه المُلَّا عبد الرحمن الجامي «كافيةَ» ابن الحاجب في علم النحو، ويُعرَف بـ«شرح مُلَّا جامي»، ت 898 هـ؛ هـ ت] حتى نهاية الكتب المقررة، وكان يتعلَّم من كل كتابٍ درسًا أو درسين أو عشرةَ دروسٍ كحدٍّ أقصى، ويترك ما تبقى منها؛ ولمَّا سأله أستاذه الشيخ «محمد الجلالي» عن سبب فعله ذلك أجابه بقوله: ليس بمقدوري أن أقرأ كلَّ هذا الكمِّ من الكتب فأستوعبَها جميعًا، إنها أشبه بخزينةِ مجوهراتٍ مفتاحُها لديكم، وأنا أرجو منكم أن تبينوا لي ما بداخل هذه الخزائن؛ أيْ أن أعلَم فيمَ تبحث هذه الكتب، حتى أدرس منها ما يوافق طبعي.
وكان غرضه من جوابه هذا إظهارَ فكر الإبداع والتجديد الموجود في نفسه فطرةً، وإدخالَه في أصول المدارس المنتشرة في ذلك الحين، [لقد ظهر تجديدُه في ميدان علم الكلام من خلال مؤلَّفاته المسمَّاة «رسائل النور» المكوَّنة من مئةٍ وثلاثين كتابًا، والتي أتمَّ تأليفَها في ثلاثٍ وعشرين سنة.
أجل، إن تحصيلَه في ثلاثةِ أشهرٍ علومًا يستلزم تحصيلها خمسَ عشرة سنةً، إنما هو إشارةٌ غيبيةٌ إلى أنه سيأتي زمانٌ لن توجد فيه مدارسُ تُدرِّس علمَ الإيمان ولو سنةً واحدةً، ناهيك عن خمسَ عشرة سنة؛ وأنه سيظهَر في ذلك الزمان تفسيرٌ للقرآن بمقدوره أن يُقدِّم للراغبين في خمسةَ عشر أسبوعًا الدروسَ التي تُقدَّم في خمسَ عشرة سنة، وأن المُلَّا سعيدًا سيكون في خدمة ذلك التفسير.
ولقد ظهر هذا التفسير وبرز للعيان؛ فعلى الرغم من هجماتِ منظمات الإفساد والإلحاد السريَّة خلال زمنٍ رهيبٍ دام ثلاثين سنة، نشرتْ رسائلُ النور دروسَ حقائقِ الإيمان بمئاتِ آلافِ النُّسَخ في كلِّ جهة، وأصبحت وسيلةَ تقويةِ إيمان ملايين الناس، وانتشرت دروس القرآن الجديدةُ هذه بأقلام آلاف الكُتَّاب من غير حاجةٍ إلى المطابع، ولفتتْ نشاطاتُها في الأناضول وخدمتُها للإيمان ودروسُها العقليَّة الرفيعة أنظارَ الجميع، حتى لقد أقرأ اللهُ سبحانه هذه الأنوارَ أهلَ السياسة والحكومةَ عن طريق المحاكم والتدقيقات، وانتشرتْ بين جيل الشباب المثقف، فكثُر فدائيو الإيمان والإسلام، وصُدَّ هجومُ الضلالة والكفر المطلَق وانكفأ، وشرعت تظهر في كل ناحيةٍ من أرض الوطن تياراتٌ توالي الدين، فأظهرت الفجر الصادقَ لسعادة الإسلام الذي سيُشرق في العالَم الإسلامي والإنساني، والحمد لله رب العالمين؛ المُعِدّون]ْ وعدمَ إضاعةِ الوقت في الكثير من