53
وشاع أمره في النواحي، وتسامعَ به الناس، فوقَّروه ونظروا إليه نظرتَهم إلى وليٍّ من أولياء الله، غير أن هذا أثار غَيرةَ مَن هم دونَه من العلماء وطلبة العلم، حتى إن بعض أولئك الطلبة من الشباب الأغرار لما عجزوا عن مغالبته بالعلم لجؤوا إلى إسكاته بالقوة، وهمُّوا أن يَبطِشوا به؛ فما إن علِم أهالي «سِيْرْت» بالأمر حتى هبُّوا لنجدته لعظيم منزلته عندهم، وحالوا بينه وبين خصومه، وجعلوه في دار؛ إلا أنه لغيرته الشديدة على مسلك العلم، وحرصِه على أهل العلم وطلبته من أن يكونوا غرضًا للجهلة، ولئلا يتدخَّل الجهال في شؤونهم، خرج من الدار وتوجَّه إلى الطلبة الذين همُّوا بإيذائه مخاطرًا بنفسِه وقال لهم: اقتلوني.. لكن حافِظوا على شرف العلم ومكانته.
وحوَّل وجهه عنهم، وأمكنهم من نفسه، فلم يهاجمه أحدٌ منهم، وزال الخِلاف.
وكان مدير المنطقة قد أرسل إليه عناصر من الجنود يبلِّغونه عزمَه على نفي أولئك الطلبة، ويطلبون منه الذهاب معهم إلى مدير المنطقة ليكون في حمايته، فردَّ طلبهم، وقال لهم: نحن طلابَ العلم نتخاصم فيما بيننا ونتراضى، وليس لمن كان خارجَ مسلكِنا أن يتدخَّل بيننا، على أن الخطأ إنما كان مني أنا.
كان هذا وهو في سن الخامسة عشرة أو السادسة عشرة، لكنه كان رشيق البدن قويَّ البنية، وكان يُعرَف في ذلك الحين بـ«سعيد المشهور»، فقد أعلن في «سِيْرْت» عن استعداده لمواجهة مَن شاء أن يناظرَه من أقرانه، وللإجابة على أيِّ سؤالٍ يُطرَح عليه من غير أن يُراجع أحدًا.
وحصل أن ذهبَ إلى «بِتْليس» ثانيةً، فبلَغَه فيها وجودُ خلافٍ بين شيخَيْن لكلٍّ منهما مدرستُه وطلابُه، فسعى لقطع دابر هذا الخلاف، وذكَّر القومَ بأنْ ليس من الإسلام تناقُل الكلام المفضي إلى عواقب سيئة لا سيما الغيبة، فشكَوه إلى الشيخ «أمين أفندي»، فقال فيه: إنه ما زال صبيًّا ليس أهلًا للخطاب.