33

و«بديع الزمان وطلاب النور»؛ وسيتبين في هذه السيرة ماهية هذه الحقيقة وهذا التيار، وما منشؤها وما غايتها؟ وما أثرها في طبقات الناس؟ وما أثرها في حياة الفرد والجماعة المادية والمعنوية؟ وما دورها مستقبلًا في تحقيق أمننا وسعادتنا أمةً وشعبًا؟ وسيشعر كل فردٍ في نهاية المطاف بالسرور والامتنان إزاء هذه الدعوةِ، اللهم إلا مَن كان سقيم القلب مُفسِدًا محرومًا.

ولعل أحدهم يَطرح سؤالًا فيقول: هل يُراد من هذه السيرة إبراز سعيدٍ النُّورْسِيّ كشخصيةٍ فائقة، ومدحُه وإطراؤه بما يرفعه فوق مستوى البشر؟

والجواب: لا بالتأكيد؛ وإنَّ من عرف حقيقةَ الدنيا وماهيةَ الحياة لم تكن عنده قيمةٌ لجاهٍ مؤقتٍ ولا لسمعةٍ أو شهرة؛ وإن من أدرك الحقيقة لم يبالِ بإطراءاتٍ زائفةٍ زائلة، ولم يُعِرِ التفاتًا لألسنةٍ تلهج بها.

ومن هنا فإن شخصًا كسعيدٍ النُّورْسِيّ يعدُّ بطلًا معنويًّا عظيمًا على هذا الصعيد، فمع أن حياته ملأى ببطولاتٍ شتى تثير الإعجاب، إلا أن ما يلفت النظر أنه كان رجلًا مضحِّيًا من طرازٍ فريد، جرَّد ذاته للحق متفانيًا في سبيله، وغدا مظهرًا للعناية الإلهية، إذ تجاوز عقبات كالجبال، وأعلن دعوته القدسيَّة من غير تردُّد، وواجه بها مئات التيارات الهدَّامة في هذا العصر، إلى أن بلغ بها شاطئ السلامة، وهذا ما يؤكد تضحيته وتجرُّده التام عن شخصه الفاني، وفناءه عن نفسه في سبيل الحق.

أجل، فلم يَخُطَّ سعيدٌ النُّورْسِيّ بعبقريته الشخصية مسارًا جديدًا في عالم الإنسانية، وإنما اتخذ الحقيقة الأزلية الحاكمة على جميع الأزمنة والعصور دعوةً له، ووقَفَ لها نفسَه وحياته، ووظَّف لها استعداداته، وليست الكمالات والأوصاف السامية المشاهدة في شخصيته وفي خدمته إلا انعكاسًا لهذه الدعوة القدسية .

وكما يحصل عندما يُوضَعُ مصباحٌ منيرٌ بين آلاف المرايا، إذ ينعكس نوره على صفحة كل مرآة، فيكتسب كُليَّةً وينال قيمةً عظيمةً بعدد تلك المرايا؛ فكذلك الحال