22
عزلةٍ حينًا من الزمن؛ ولهذا نجد أنفاسَ سرائرهم التي هي أنقى وأسطع من قطرات الندى، ما انعكستْ على القلوب إلا تركتْ فيها آثارًا لا مثيل لها.
وكما حقَّقَ الإمام الغزالي قبل تسعمئة سنةٍ فتوحاتٍ في ميدان الأخلاق والفضيلة، حقَّقَ بديعُ الزمان فتوحاتٍ في هذا العصر في ميدان الإيمان والإخلاص.
أجل، فما ساق الأستاذَ إلى ساحات الجهاد الملتهبة إلا شفقتُه ورحمتُه التي عزَّ نظيرها، ولنستمع منه إلى هذه الحقيقة:
«يقولون لي: لمَ تعرَّضتَ لهذا وذاك؟! لمَ أزعجتَهم؟!
أقول: لم أنتبه لذلك.. فأمامي حريقٌ هائل يبلغ لهيبه عَنان السماء.. يحترق فيه أبنائي.. وتصل ألسنة ناره إليِّ.. فأهبُّ مسرعًا لأُخمِد الحريق وأنقذهم.. فيقف أحدهم في طريقي يريد إعاقتي، فتصدمه قدمي.. ما أهمية ذلك؟ ما قيمة حادثةٍ تافهةٍ كهذه إزاء هذا الحريق الهائل؟ تفكيرٌ ضيقٌ ونظرٌ قاصر».

 استغناؤه:

لقد ضَرب الأستاذ على مدى حياته آلاف الأمثلة في الاستغناء حتى غدت مآثرَ تُروى على كلِّ لسانٍ بين طبقات مجتمعنا كافَّة، إذْ تجرَّد عن السِّوى مادةً ومعنًى باستغناءٍ تام، وتوجَّه بكلِّ كيانه إلى خزينةِ رب العالمين التي لا تنفَد ولا تنتهي؛ ولم يكن ذلك مجرد عادة، بل كان مذهبًا ومسلكًا ومشربًا اتخذه والتزمه مدى حياته، فلم يَحِد عنه مهما قَسَتِ الظروف.
واللافت للنظر في هذا الأمر أن مسلكه هذا لم يبق منحصرًا فيه وحده، بل انتقل كفكرةٍ قدسيةٍ إلى طلابه، حتى إن المرءَ لتعتريه الدهشة والحيرة أمام استغناءِ طالبِ النور الذي غدا مَظهَر شرفٍ باغتساله من بحر النور.
اُنظروا كيف يوضِّح الأستاذ في المكتوب الثاني من مكتوباته-ذلك الأثرِ الرائع- هذه النقطةَ المهمةَ من وجوهٍ ستةٍ بحِسٍّ إيمانيٍّ وعرفانيٍّ أصيل: