19

إن بديع الزمان شخصيةٌ مبارَكةٌ، ومَظهَرُ عنايةٍ ربّانيةٍ فريدة، لقد غدتْ عنده زنازينُ السجن روضاتٍ يشاهِد منها الآفاق النيِّرة للعوالم الأبديَّة، وانقلبتْ أعوادُ المشانق منابرَ وعظٍ وإرشادٍ يلقي منها على أسماع الإنسانية دروسَ الصبر ورباطة الجأش والثبات والجَلَد في سبيل غايةٍ عُلوية، وتحوَّلت السجون -واحدًا تلو الآخر- إلى مدارسَ يوسفية، يدخلها كما يدخل أستاذٌ كبيرٌ الجامعةَ لإلقاء محاضرة؛ ذلك أن مَن فيها من السجناء هم طلابُه المحتاجون إلى فيضه وإرشاده.
ولقد كان إنقاذُه في كل يومٍ إيمانَ بضعةٍ من أبناء الوطن، وتبديلُ حال الجُناة إلى أناسٍ كالملائكة، سعادةً لا تُقدَّرُ عنده بالدنيا.
إن إنسانًا على هذا القدر الرفيع من مشاعر الإخلاص والإيمان لا شك أنه ترك تأثير البريق الزائف الذي يخلِّفه مفهوما الزمان والمكان على الفانين في عالَم المادة الكثيف، وسما بروحه إلى آفاق عالَمِ المعنويات بأنواره المتلألئة؛ وما المرتبة العليا التي يُعرِّفها ويصِفها كبارُ الصوفية رضي الله عنهم بـ«الفناء في الله» و«البقاء بالله» إلا نيل هذا الشرف القدسي.
أجل.. إن لكل مؤمنٍ حظَّه من الأُنس والحضور والخشوع والفيض والتجرُّد والاستغراق، وكلٌّ ينهَل من هذا الفيض الإلٰهي بحسَب إيمانه وعرفانه، وبحسَب صلاحه وتقواه، وبحسَب استمداده ومعنوياته؛ غير أن هذا الحال الرفيع والوصال الجميل والعطاء الفريد مستمرٌّ على الدوام لأولئك المجاهدين العظام أرباب الإحسان المذكورين في الآية الكريمة، فلهذا لا يقعون في غفلةِ نسيان المولى سبحانه، بل هم طَوالَ عمرهم في مواجهةٍ مع نفوسهم كالأُسود؛ تسجِّلُ كلُّ لحظةٍ من حياتهم أسمى ذكرياتِ الترقي والتكمُّل، فينصهر وجودهم وكيانهم برضى رب العالمين المتصف بصفات الجلال والجمال والكمال.
فاللهم ألحقنا بتلك الزمرة السعيدة؛ آمين.

***