106

لا تتوقف، بل تَصدَح هادرةً على الدوام؛ ولا يزال سلطانُ الأَزَل وملِكُ الملوك يملأ العالَم بموسيقاه الإلهية: «القرآن»، فتتعالى نحو قبة السماء، وتنسابُ إلى أصدافِ رؤوس العلماء، ومغاراتِ قلوب الأولياء، وكهوفِ أفواه الخطباء، فترتدُّ من ألسنتهم أصداءَ سيَّارةً سيَّالة، وتتمثَّل بالطباعةِ كتبًا إسلاميةً، كلُّ كتابٍ أشبهُ بوَتَرٍ يشدو لحنًا سماويًّا روحيًّا؛ فمن لم يَسمعه أو يستمع إليه بأُذُنَي القلب، أسيستمع إلى طنطناتِ أميرٍ ورجالِ حكومةٍ هي بالنسبة لذلك الصدى أشبهُ بطنينِ البعوض أو الذباب؟!

…….

س: لقد فسَّروا لنا الحريَّة تفسيرًا بالغ السوء، حتى قالوا: إن من الحرية أنْ لو ارتكب الإنسانُ كلَّ سـفاهةٍ [معنى السفاهة في اللغة العربية خِفَّة العقل، لكنها مستعملةٌ هنا بمعنى اتباع الهوى والشهوات، وارتكاب الرذائل والقبائح، وهذا من قبيل إطلاق اسم الملزوم على اللازم؛ هـ ت] ورذالةٍ لم يؤاخَذْ بشيءٍ ما لَم يَضرَّ غيرَه؛ أهي كذلك يا تُرى؟!

 ج: إنما أعلَن هؤلاء عن سفاهتهم ورذالتهم لا عن الحرية، وجاؤوا بهَذَيانٍ كمَزاعِم الصِّبْيان؛ ذلك أن الحريَّة الحسناء يَلزَمها أن تتأدَّب بالآداب الشرعية وتتزيَّن بها، وإلا فليست السفاهةُ والرذالة من الحرية في شيء؛ بل هي الحيَوانيَّةُ، واستبدادُ الشيطان، وإسارُ النفس الأمَّارة.

إن الحريَّة العامَّة إنما هي محصَّلُ ذرَّاتِ حريَّات الأفراد، وشأنُها ألَّا يَضُرَّ الإنسانُ نَفْسَه ولا غيرَه؛ إلا أنَّ عندكم أيها البُداة الرُّحَّل نصفَ حرية، ونصفُها الآخر عدمُ إفسادِ حرية الآخرين.

هذا، مع أن الحريَّة الممزوجة بالبدائية وبحالةِ عيش الكفاف موجودةٌ كذلك لدى جيرانكم من الحيَوانات في الجبال؛ والواقع أنه ليس لتلك الحيوانات الوحشية عديمةِ الحيلة من لذَّةٍ وتسليةٍ -إنْ وُجِدتْ- سوى حريَّتها، أمَّا الحرية المتلألئة كالشمس،