183
قدِمَ بديع الزمان إلى أنقرة يَحدوه الأملُ في تحقيقِ أمرٍ كان يحلُم به منذ أن كان فتًى، وكان قد عدَّه غايةَ حياته وثمرتَها، ووقَفَ حياته لأجله، ألا وهو يقظة العالَم الإسلامي ونهضتُه؛ فقد كانتْ محاوراتُه التي جَرَتْ من قبلُ مع المئات من أهل العلم والفضل في شرقيِّ الأناضول، ثم سطوعُ نجمه في اسطنبول وإثارتُه إعجابَ العلماء، وكذا توجُّسُ أهلِ السياسة منه، كلُّ هذه المواقف كانت تومئ إلى ملامحِ مؤسِّسِ مشروعٍ إسلاميٍّ كبير، وأنه قد استشعر في روحه مبكِّرًا مسؤوليتَه تجاه هذه الوظيفة، مثلما استشعر حماسَه وسرورَه تجاهها.
ولم تكن خُطَبُه التي ألقاها في الاجتماعات ومقالاتُه التي نشرها في الصُّحُف عشيةَ إعلان الحرية إلا نتيجةً لتلك النيَّة والتصوُّر، فلقد ألقى خُطَبَه ونشر مقالاتِه مؤمِّلًا أن تكون الحريَّةُ وسيلةَ سعادةٍ عظمى للعالَم الإسلامي والأناضول، بِجعْلِ المَشْرُوطِيّة خادمةً للشريعة؛ وكانت له بياناتٌ تصرِّح بأنَّ «صدى القرآن سيكون هو الأعلى والأبلغ في خِضمِّ ظلماتِ المستقبل وتحولاته» كما يَظهر جليًّا في بعض مؤلفاته كـ«لمعات» [المقصود باللمعات هنا ديوان «لمعات»، وهو ديوانٌ نثريٌّ باللغة التركية، وهو آخر ما ألفه سعيدٌ القديم، وكان تأليفه في شهر رمضان من العام 1337 هـ، الموافق 1919 م، ثم بعد أن ظهرت رسائل النور أجرى فيه بعض التعديلات، وأضاف عليه بعض الهوامش، وأمر بإلحاقه بمجموعة «الكلمات»؛ هـ ت] و«سنوحات» و«الخُطبة الشامية».
لقد تسلَّم التُّرْك دفَّة القيادة في العالم الإسلامي بعد العباسيين، ودامتْ خلافتُهم وإدارتُهم الحكيمة لمقاليد الأمور قُرابة الألف عام، ثم اندلعت الحرب العالمية التي روَّعت العالَم بأسره، وانتهتْ على إثرها الدولةُ العثمانية، واستولى أعداءُ الإسلام الأبديُّون على مركزِ حكمِه، وباتوا على قناعةٍ من أنهم قد قضَوا على الإسلام نفسِه؛ وقَدِمَ بديع الزمان إلى أنقرة في تلك المرحلة الحرِجة تسوقه القدرة والإحسان الإلهيَّان، آملًا أن يعمل مع القُوى الناشئة حديثًا، والتي يُرجى منها أن تنهض بالدعوة إلى الدين،