144
الجبال «موسى بك» بصحبة ألفٍ من رجاله؛ ومع أن الخبر كان مبالَغًا فيه إلا أنه ألقى الخوفَ في قلب قائد القُوزاق، فأحجم ولم يتقدم.
ووزَّع بديع الزمان عناصرَه على المدافع لتحريرها، فقسَّمهم إلى مجموعاتٍ صغيرةٍ تتولَّى كلُّ واحدةٍ عمليَّة تحرير مدفعٍ واستخلاصه، حتى حرَّر هو ومجموعةٌ من إخوانه آخر تلك المدافع؛ وبذلك تمكَّنوا من نقلها جميعًا إلى «بِتْليس»، فواجَهَ بها المتطوِّعون والجنودُ عدوَّهم بضعةَ أيام، حتى نجا الأهالي بأمتعتهم وأموالهم.
ولم يكن بديع الزمان في تلك الحرب يحتمي بالخنادق، بل كان دائمَ التحرُّك على خطِّ المواجهة كي يبثَّ العزيمة في نفوس المتطوِّعين؛ إلا أنه بينما كان ذات مرةٍ على صهوةِ جواده يَعْدو به ذات اليمين وذات الشِّمال في خطوط المواجهة الأمامية، إذْ ورَدَ على خاطره واردٌ أثَّر في نفسِه، مفادُه أنْ: «إذا استشهدتُ الآن على هذه الحال، أي وأنا في المقدِّمة على نحوٍ بارزٍ للعِيان، فحذارِ أن يكون في هيئتي شيءٌ من حُبِّ الظهور المخِلِّ بإخلاصي الذي هو أساسُ نَيل مرتبة الشهادة»، فحوَّل عنان فرسه وعاد من فورِه إلى الخندق وانضم إلى إخوانه. [يمكن القول هنا: إن انصراف تفكيره إلى تحقيق الإخلاص في لحظةٍ هو فيها بين الحياة والموت عند اشتداد الوَطيس، إنما هو مثالٌ من أمثلةِ الكمال الإنساني؛ ذلك أن شدة عنايته بالإخلاص الذي هو أعلى وأصفى مراتب الكمال أثناء وجوده في ساحات الوغى، وفي مواجهة العِدا، وبين نيران المدافع، وحرصَه على استحضاره في روحه ونيَّتِه عند قيامه بمهام قائدٍ في أعلى درجات الشجاعة الإيمانية والشهامة الإسلامية، إنما يدلُّ على سموِّ جهاده وتضحيته وخدمته الدينية الجديرة بالتقدير، كما يدلُّ أكثر على كمال روحه.
وإذًا فليست أوصاف المدح والثناء التي عُرِف بها المُلَّا سعيد بين المسلمين وشهِدتْ بها حياتُه كـ«بديع الزمان» و«فطين العصر» وغيرُها أوصافًا بغير حقيقةٍ أو مجرَّد كلماتٍ تقال، فإن الخدمة الإيمانية والقرآنية العظيمة التي قامت بها رسائل النور، والشخصية المعنوية القدسية التي شكَّلها الملايين من طلابه المُضَحِّين المعتزِّين بالحمية الدينية لَشاهدٌ صادقٌ ودليلٌ قاطعٌ على ذلك؛ المُعِدُّون]