166

ثم إنه مع سيطرةِ الهوى المنفلت من عقاله أصبحت الحاجاتُ غير الضرورية في حكم الضرورية؛ فبينما كان الإنسان في زمن البداوة محتاجًا إلى أربعة أشياء، إذا بالمدنية تجعله محتاجًا إلى مئة حاجة، فتُردِيه فقيرًا مُعوِزًا؛ وبما أن عمل المرء لم يعد كافيًا لسدِّ نفقاته فقد ساقتْه إلى طريق الحيلة والحرام، فأفسدت أساسَ الأخلاق لديه.

ثم إنها أعطتِ الجماعةَ ثروةً، وأضفَتْ على النوعِ أبهةً، لكنها بالمقابل جعلت الأشخاصَ والأفراد فقراء مُعْوِزين بلا أخلاق.

لقد قاءتْ هذه المدنيَّة في دفعةٍ واحدة جميعَ ما في القرون الأولى من بدائيَّةٍ وهمجيةٍ وتوحُّش؛ وإن إحجام العالم الإسلامي عن هذه المدنية وفتورَه تجاهها وتردُّدَه في قبولها لَأمرٌ يلفت الانتباه؛ ذلك أن الهداية الإلهية التي في الشريعة، والتي تمتاز بخاصية الاستقلال والاستغناء، لا يمكن أن تُطَعَّمَ بدهاءِ فلسفةِ روما أو تمتزج بها، فضلًا عن أن تَتَّبِعها أو تستطيعَ تلك الفلسفةُ ابتلاعَها!!

لقد حافظتْ كُلٌّ من روما واليونان القديمتين بدهائهما على استقلاليَّتهما على مرِّ القرون، بالرغم من أنهما نشأتا توءمَين من أصلٍ واحد، وبالرغم من محاولات المدنيَّة والمسيحيَّةِ المزج بينهما، فبقيتا كأنهما الماء والزيت، وما زالتا كذلك حتى الآن كأنهما روحان انتقلتا بالتناسخ لتعيشا في صورتين مختلفتين.

فإذا كانت هاتان لا تمتزجان رغم كونهما توءمين ورغم وجود أسباب الامتزاج، فإن نور الهداية الذي هو روح الشريعة لا يمكن بحالٍ أن يُمزَج أو يُبْتَلع بدهاءِ روما الذي هو أساس المدنيَّة الملوَّثة المظلمة.

قالوا: فكيف إذًا هي المدنيَّة الموجودة في الشريعة الغرَّاء؟

قلت: أما المدنيَّة التي تتضمنها وتأمر بها الشريعةُ الأحمدية -على صاحبها أفضل الصلاة والسلام- فإنها ستَظهَر بانقشاعِ المدنيَّة الحاليَّة، فتضع الأُسس القويمة بدلًامن تلك الأُسس الفاسدة.

فأما نقطة استنادها: فالحقُّ بدلًا من القوة، وشأنه: العدالة والتوازن.