169

قلت: إن المبتلى بالمصيبة يرجو المكافأة، فإما أن يُعطاها من حسنات ذلك المسؤول الذي ارتكب الخطيئة، والحال أنها بحكمِ المعدوم؛ وإما أن يُعطاها من خزينةِ الغيب، ومكافأةُ مثلِ هذه الأعمال في خزينةِ الغيب نيلُ درجةِ الجهاد والشهادة.

فرأيت أن المجلس قد استحسن ما قلت، فأفقتُ من شدة توتُّري، فوجدتُ نفسي جالسًا في السرير وقد عقدتُ يدَيَّ والعرقُ يتصبَّب مني؛ وهكذا مضت تلك الليلة.

***

لم يكن بديع الزمان يقتني الكُتب، وكان يُسأل: لِـمَ لا تنظر في الكتب الأخرى؟! فيجيب: إنني أتلقى الفهم من القرآن بتجريدِ فكري من كلِّ ما سواه.

وكان إذا نقَلَ شيئًا من الكتب -كبعض المسائل التي يراها مهمةً- نقَلَها دون تغيير؛ فكان يُسأل: لِـمَ تُكرِّر الأمر كما هو؟ فيجيب: إن الحقيقة لا تُمَلّ، فلا أرغب بتغيير حُلَّتِها.

وكما سبق ذكرُه، فإن بديع الزمان كان قد أمر بطبع اثنَي عشر مؤلَّفًا تتحدث عن الحقائق القرآنية، [المعدّون: إن المؤلَّفات التي نشَرَها بديع الزمان سعيدٌ النُّورْسِيّ بعد أن طَبعَ بعضَها في اسطنبول وطَبعَ بعضَها الآخرَ في أنقرة، قد نُشِرَتْ ثانيةً بعد أربعين سنة في مجموعٍ مستقلٍّ سُمِّيَ «المثنوي العربي النُّوري»، وقد تحدَّث في مقدِّمته عن هذه المؤلَّفات بقوله:

      «كان سعيدٌ القديم -قبل حوالي خمسين سنة- لزيادةِ اشتغاله بالعلوم العقلية والفلسفية، يتحرَّى مسلكًا ومدخلًا للوصول إلى حقيقةِ الحقائق، داخلًا في عِداد الجامعين بين الطريقة والحقيقة، وكان لا يَقنع ولا يكتفي بالحركة القلبية وحدَها كأكثر أهل الطريقة، بل كان يَجهَد كلَّ الجهد لشفاء فكرِه وعقلِه من الأسقام التي أورثتها إياه مداومةُ النظر في كتب الفلاسفة.

      ثم أراد -بعد أن تخلَّص من هذه الأسقام- أن يقتدي ببعض عظماء أهل الحقيقة، المتوجِّهين إلى الحقيقة بالعقل والقلب، فرأى أن لكلِّ واحدٍ منهم خاصيَّةً جاذبةً خاصةً به، فحارَ في ترجيح بعضهم على بعض، فوجَّهه الإمام الرباني بطرزٍ غيبيٍّ بقولِه: «وحِّد القبلة» أي سِرْ خلف أستاذٍ واحد، فخطر على قلب ذلك السعيد القديم المثخَن بالجراح أن الأستاذ الحقيقي إنما هو القرآن ليس إلَّا، وأن توحيد القبلة إنما يكون بأستاذيته وحدَه دون سواه، فشرع -بإرشادٍ من ذلك الأستاذ القدسي بالسلوك بروحه وقلبه على أغرب وجه، واضطرته نفسُه الأمَّارة بشكوكها وشبهاتها إلى المجاهدة المعنوية والعلمية.    

      وخلال سلوكه ذلك المسلكَ ومعاناته في دفع الشكوك، قطَعَ المقاماتِ وطالَعَ ما فيها، لا كما يفعله أهل الاستغراق مع غضِّ الأبصار، بل كما فعله الإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، مع فتحِ أبصار القلب والروح والعقل، فسار فيها -أي في المقامات- ورأى ما فيها بتلك الأبصار كلِّها، منفتحةً من غير غضٍّ ولا غَمْض.

      فحمدًا لله أنْ وجد طريقًا إلى الحقيقة بدرس القرآن وإرشاده، حتى بيَّنَ برسائل النور التي ألَّفها «سعيدٌ الجديد» حقيقةَ:

وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ    تدل على أنه واحدُ

        لقد كان في سياحته وسلوكه ذلك السلوك في تلك المقامات، ساعيًا بالقلب تحت نَظَارةِ العقل، وبالعقل في حمايةِ القلب، كالإمام الغزالي والإمام الرباني وجلال الدين الرومي، فبادر إلى ضِماد جراحاتِ قلبه وروحه، وخلَّص نفسَه من الوساوس والأوهام، وبخَلاصه منها انقلب «سعيدٌ القديم» إلى «سعيدٍ الجديد» ولله الحمد، فألَّفَ بالعربية ما هو بحكم المثنوي الشريف -المكتوب أصلًا بالفارسية- رسائلَ عدةً في أوجز العبارات، وكلما سنحتْ له الفرصة أقدم على طبعها، وهي: «قطرة»، «حَباب»، «حَبَّة»، «زَهرة»، «ذرَّة»، «شَمَّة»، «شعلة»، «لمعات»، «رشحات»، «لاسِيَّمات»، وسواها من الدروس بالإضافة لرسالتين بالتركية هما: «لمعات» و«نقطة».

      وبيَّنَ ذلك المسلكَ في غضونِ نصفِ قرنٍ من الزمان في «رسائل النور» التي أصبحت شبيهةً بموسوعةٍ للمثنوي، غير أنها لم تقتصر على مجاهدة النفس والشيطان في الداخل، بل راحت تنقذ الحيارى المحتاجين، تنتشل المنساقين إلى الضلالة من أهل الفلسفة.

      …….

      فتبيَّن أن «المثنوي العربي»، وهو مَشْتلُ رسائل النور، قد سعى كالطُّرُق الخفية إلى المعرفة الإلهية، في تطهير الأنفس والداخل من الإنسان، فوُفِّق إلى فتح الطريق من الروح والقلب.

      أما «رسائل النور» التي هي بستانه اليانع، فقد فتحت طريقًا واسعًا إلى معرفة الله، بتوجُّهها إلى الآفاق الكونية -كالطُّرُق الجهرية- فضلًا عن جهادها في الأنفس، حتى كأنها عصا موسى عليه السلام، أينما ضَرَبتْ فجَّرَت الماء الزلال.

      وكذا، فإن مسلك «رسائل النور» ليس مسلك العلماء والحكماء، بل هو مسلكٌ مقتَبسٌ من الإعجاز المعنوي للقرآن، إذْ تفتح من كل شيءٍ نافذةً إلى معرفة الله، فيستفيد السالك في «رسائل النور» في ساعةٍ ما لا يستفيده السائرون في المسالك الأخرى في سنة، وذلك سرٌّ من أسرار القرآن يؤتيه الله مَن شاء من عباده، فيدفع به هجوم أهل العِناد، ولقد تصدَّتْ لهم في هذا الزمان الرهيب، فكانت لها الغلبة على الدوام».

   إلى هنا ينتهي كلام الأستاذ النُّورْسِيّ في مقدمة «المثنوي» مترجَمًا بقلم شقيقه عبد المجيد بتصرُّفٍ يسير؛ هـ ت] ثلاثةٌ أو أربعةٌ منها باللغة التركية، والباقي بالعربية؛ وهي تُثبِتُ الحقائقَ بعبارةٍ وأسلوبِ بيانٍ لا نظيرَ لهما في أي كتابٍ حتى يومِنا هذا.