126
أجل، إن الصدق هو العروة الوثقى لحياة الإسلام الاجتماعية، وما الرياء إلا نوعٌ من الكذب الفعليِّ، وما المداهنة والتصنُّع إلا كذبٌ مرذول، وما النفاق إلا كذبٌ مُضِرٌّ؛ أما الكذب فافتراءٌ على قدرةِ الصانعِ ذي الجلال سبحانه؛ والكفر بجميع أنواعه كَذِبٌ، والإيمانُ صِدق.
وبناءً على هذا السِّر، فإن بين الكذب والصدق بَونًا شاسعًا لا حدَّ له، فيلزَم أن يتباعدا كما بين المشرِق والمغرِب، ويلزم ألَّا يتداخلا كما هي الحال بين النار والنور، إلا أن السياسة الخبيثة والحملات الدعائية المغرضة قد خلطتْ أحدَهما بالآخر، مثلما أخلَّتْ بكمالات البشر. [إخواني، يُفهَم من هذا الدرس الذي ألقاه «سعيدٌ القديم» قبل خمسٍ وأربعين سنة أن سعيدًا ذاك كان وثيق الصِّلة بالسياسة وبشؤون الإسلام الاجتماعية؛ لكن حَذارِ أن تظنوا أنه سلكَ سبيلًا لاتخاذِ الدين أداةً أو وسيلةً للسياسة، حاشا؛ بل كان يعمل بكل قوَّته على جعل السياسة أداةً للدين، وكان يقول: «إنني أُفضِّل حقيقةً واحدةً من حقائقِ الدين على ألفِ سياسة».
نعم، شعر في ذلك الحين -أي قبل ما يقرب من خمسين عامًا- أن بعض الزنادقة المنافقين يعملون على جعل السياسة أداةً بِيَد اللادينية، فراح في المقابل يعمل جاهدًا ليجعل السياسة أداةً لحقائق الإسلام وخادمةً لها؛ إلا أنه بعد ذلك بعشرين سنةً وَجَد فريقًا من السياسيين المتدينين يجتهدون في جعل الدين أداةً للسياسة الإسلامية، ردًا منهم على جهود أولئك الزنادقة المنافقين المتستِّرين الذين جعلوا السياسة أداةً للَّادينيَّة بذريعةِ التغريب!! أَلَا إنه ما ينبغي لشمس الإسلام أن تدور في فلَك الأضواء الأرضية أو تكون أداةً لها؛ وإنَّ جعْلَها أداةً ما هو إلا حَطٌّ من قيمة الإسلام وجريمةٌ كبرى بحقِّه.
حتى لقد رأى «سعيدٌ القديم» -من جرَّاء ذلك النمط من التحيُّز للسياسة- عالِمًا صالحًا يُثني بحرارةٍ على منافقٍ يوافق فكرَه السياسي، وينتقد عالِمًا آخرَ صالحًا يخالفُه في السياسة، بل يُفسِّقه!! فقال له سعيدٌ القديم: إنك لو أيَّدَ شيطانٌ فكرَك لاستمطرْتَ عليه الرحمة، ولو خالف فكرَك السياسيَّ ملَكٌ لَلَعنتَه!!
فلأجل هذا قال «سعيدٌ القديم» قبل خمسٍ وثلاثين سنةً: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة»-أصبحت الآن خمسًا وأربعين-، وترك السياسة؛ سعيد.
أُحيلَتْ كتبُ أستاذنا ورسائلُه البالغة مئةً وثلاثين جزءًا إلى المراجعة والتمحيص، فدقَّقَتْ فيها مَحاكم وهيئاتٌ حكومية تدقيقًا تامًا على فتراتٍ متباعدة، فلم تعثر على أدنى أمارةٍ تومئ إلى اتخاذه الدين أداةً للسياسة بالرَّغم من اضطراره لمواجهة الظَّلمة والمرتدين والمنافقين، بل بالرغم من صدور أمرٍ سِرِّيٍّ بإعدامه؛ وكفى بهذا دليلًا قاطعًا على عدمِ اتخاذه الدين أداةً للسياسة؛ أما نحن تلاميذ النور العارفين بحياة الأستاذ عن قرب فيتملَّكنا العَجَب إزاء مثل هذه الحالة الفريدة، ونَعُدُّها دليلًا على الإخلاص الحقيقي ضمن دائرة رسائل النور؛ تلاميذ النور]