133
إلى المستقبل في قطار الزمان الحاضر، أقول لكم: لقد رَسَخَت الحميَّةُ الدينيَّة والقوميَّةُ الإسلاميَّةُ لدى كلٍّ من التُّرك والعرب، وامتزجت بهم امتزاجًا تامًّا فأصبحت في حالٍ لا تقبل التفريق؛ وإنَّ الحميَّة الإسلاميَّة هي أمتن وأقوى سلسلةٍ نورانيَّةٍ آتيةٍ من العرش، وهي عروةٌ وثقى لا تنفصم ولا تنكسر، وقلعةٌ قدسيَّةٌ لا تنهدم ولا تنهزم.
فلما قلتُ هذا، قال لي ذانك المعلِّمان المثقفان: ما دليلك؟ فإن هذه الدعوى الكبيرة تتطلب حجةً كبيرة، ودليلًا في غاية القوة، فما هو؟
وكان القطار في تلك الأثناء قد خرج لتوِّه من النفق، فأطلَلْنا برؤوسنا من النوافذ ننظر، فرأينا صبيًّا لم يبلغ السادسة من عمره قد وقف على مقرُبةٍ من سِكة القطار، فقلتُ لصاحبَيَّ المعلِّمَين: إن هذا الطفل البريء يجيب عن سؤالنا بلسان حاله، فليكن هو أستاذَنا بدلًا مني في مدرستنا السَّيَّارة هذه، فإنَّ لسانَ حاله يقول الحقيقة التالية:
انظروا إلى دابَّة الأرض هذه وقد خرجتْ من النفق مندفعةً هادرةً مدوِّيةً على نحوٍ يثير الفزَع، بينما يقفُ هذا الطفلُ على بعدِ مترٍ من ممرِّها، فمع أنها تهدِّدُ بهديرها وتتوعَّد بهجومها قائلةً بلسان الحال: «الويلُ لمن يعترضُني»، إلا أنه يقف في طريقها بحريَّةٍ كاملةٍ، وشجاعةٍ عجيبة، وطمأنينةٍ مدهشة، لا يكترثُ لشيءٍ من تهديدها ولا يلقي له بالًا، كأنه يستخفُّ بهجومها قائلًا بلسانِ حالِ بُطولته وثباتِه وصلابته: أيها القطار، لن تخيفني بهديرٍ يُدَوِّي كقصفِ الرعد، أنت أسيرُ نظامِك، وخِطامُك بِيد قائدك، وليس من شأنك أن تتعدَّى عليَّ، ولا بمقدورك أن تجعلني رهينَ استبدادك؛ فهيا، اذهبْ في طريقك، وامضِ في سبيلك بإذن قائدك.
فيا رفيقَيَّ في هذا القطار، ويا إخواني المشتغلين بالعلوم بعد خمسين سنة: هيا اطووا الزمان وافرِضوا وجودَ رستم الإيراني أو هرقل اليوناني [شخصيتان شهيرتان في كلٍّ من التراث الفارسي والإغريقي، ترمزان إلى القوة والشجاعة والبطولة؛ هـ ت] ببطولاتهما العجيبة مكانَ هذا الطفل البريء، فبما أنه لم يكن للقطار وجودٌ في زمانهما فلن يكون لديهما اعتقادٌ