154

خرجتُ من المقبرة وأنا أحمل هذا الخيال المخيف، ودخلتُ غرفةً صغيرةً في جامع السلطان أيوب كنتُ دخلتُها من قبلُ مرارًا، وجعلتُ أفكِّر في نفسي قائلًا: إنما أنا ضيف.. ضيفٌ من ثلاثة أوجُه، فكما أنني ضيفٌ في هذه الغرفة الصغيرة، فإنني كذلك ضيفٌ في اسطنبول، وضيفٌ أيضًا في الدنيا؛ وعلى الضيف أن يهتم بأمرِ مغادرته؛ فكما أني سأغادر هذه الغرفة، فإني سأغادر اسطنبول ذات يوم، وسأغادر الدنيا كذلك في يومٍ آخَر.

وفي غمرةِ تلك الحال خيَّمتْ على رأسي وقلبي مشاعرُ غمٍّ وحزنٍ مفعمةٌ بالألم واللوعة والأسى، ذلك أني لن أفقد صديقًا أو صديقين فحسْب، بل سأفارق آلافَ الأحبَّة في اسطنبول، مثلما سأفارق اسطنبول نفسَها التي أحببْتُها، وكما سأفارق مئاتِ الآلاف من أصدقائي في الدنيا، سأفارق الدنيا الجميلةَ نفسَها التي أحببتُها وفُتِنتُ بها؛ وبينما أنا مستغرقٌ في هذا التفكير إذْ عُدتُ إلى ذلك المكان المرتفِع من المقبرة، فإذا بي أرى الناسَ كأنهم جنائزُ تتحرك، تمامًا مثلما يتراءَى الناسُ في مشاهد السينما التي تنقل صورةَ الماضي إلى الحاضر، والتي تَعرِض شاشاتُها أشخاصًا أحياءً يتحركون مع أنهم اليوم من الأموات، وكنتُ أتردَّد إليها أحيانًا للعبرة، فقال لي خيالي: ما دام بعضُ الذين طَوَتْهم هذه المقبرة يُشاهَدون في السينما أحياءً يتحركون، فشاهِدِ الذين سيدخلون المقبرةَ في المستقبل حتمًا كأنهم دخلوها بالفعل، فإنهم أيضًا جنائز تتحرك.

وفجأةً تبدَّدتْ تلك الحال الحزينة، وانقلبتْ -بنورِ القرآن الحكيم، وإرشادِ الغوثِ الأعظم الشيخ عبد القادر الجيلاني قُدِّس سره- فرحًا وسرورًا، وذكَّرَني النورُ الآتي من القرآن بالخاطر التالي:

كان لك في غربتك في الشَّمال الشرقيِّ بـ«كوسْتْروما» صديقٌ أو اثنان من الضباط الأسرى، وكنت تعلَم أنهما ذاهبان إلى اسطنبول لا محالة، فلو سألك أحدٌ: أتذهب إلى اسطنبول أم تبقى هنا؟ فلا ريب إنْ كان لك ذرَّةٌ من عقلٍ أنك ستقبل الذهاب إلى اسطنبول بفرحٍ وسرور؛ لأن لك من أحبابك فيها تسعمئةٍ وتسعةً وتسعين من ألفِ