159

لأن تكون بغير هذه الصورة؛ أما الأسباب فإنما هي حُجُبٌ وأستار، ذلك أن ما نظنُّه أصغرَ المخلوقات وأحقرَها قد يكون -من حيث الصنعةُ والخِلقة- أعظمَ من أعظمِ المخلوقات، فالذباب إن لم يَفُقِ الدجاجَ صنعةً لم يَقصُر عنه؛ وعلى هذا فلا يُفرَّق بين كبيرٍ وصغير، فإمَّا أن يُقَسَّم الجميعُ على الأسباب المادية، وإما أن يُسْنَد الجميع كُلِّيًّا إلى ذاتِ واحدٍ فردٍ، فكما أن الشِّقَّ الأوَّل محال، فالشِّقُّ الآخَر واجبٌ ضروريّ.

وذلك أن الأمرَ إنْ أُسنِد إلى ذاتِ واحدٍ فردٍ، أي إلى قديرٍ أزليٍّ: فما دام علمُه محيطًا بكلِّ شيء -وهو علمٌ متحقِّقٌ وجودُه قطعًا بدلالةِ انتظامِ الموجودات وحِكَمِها البالغة-؛ وما دام يتعيَّن في علمه مقدارُ كلِّ شيء؛ وما دامت تأتي من العدم إلى الوجود في كلِّ وقتٍ مصنوعاتٌ متقَنةٌ غيرُ متناهيةٍ بسهولةٍ غير متناهية كما هو ثابتٌ بالمشاهدة؛ وما دام لذلك القدير العليم قدرةٌ لا حدَّ لها -كما بيَّنَّا في رسائل كثيرةٍ بدلائلَ قويَّةٍ لا تُحَدُّ، خصوصًا ما أُثبِت في «المكتوب العشرين»، وفي ختام «اللمعة الثالثة والعشرين»- بحيث يَقدِر على إيجادِ أيِّ شيءٍ بالغًا ما بلغ بمجرَّدِ أمرِ: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:47] كما لو أنه قَدْحُ عودِ ثقاب: فلا ريب أن السهولةَ الخارقةَ للعادة التي تُرى بالمشاهدة إنما جاءت من تَيْنِك الإحاطةِ العلميِّة وعَظَمةِ القدرة.

فكما يَحصُل مثلًا إذا مُرِّرتْ مادةٌ مخصوصةٌ على كتابٍ كُتِبَ بحبرٍ كيميائيٍّ سِرِّيٍّ، إذْ يَظهَر على الفور ذلك الكتابُ العظيم للعِيان، ويُقرئُ ما فيه لكلِّ ناظر؛ فكذلك الأمر بالنسبة لكلِّ شيءٍ، إذْ تتعيَّن صورتُه المخصوصة بمقدارٍ معيَّنٍ في العلم المحيط للقدير الأزلي سبحانه، فيُمرِّر القديرُ المطلَق قوَّتَه التي هي جَلوةٌ من جلواتِ قدرتِه، على تلك الماهيَّة العلميَّة بغايةِ السهولة، كتمرير تلك المادة على تلك الكتابة، وذلك بقدرته اللامحدودة، وبإرادته النافذة، وبأمره: ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:47]، فيعطي ذلك الشيءَ وجودَه الخارجيَّ، ويُظهِرُه للعِيان، فيُقرِئُ نقوشَ حكمته.