160

أما إنْ لم تُسْنَد جميعُ الأشياءِ بكُلِّيَّتِها إلى ذلك القدير الأزليِّ العليمِ بكلِّ شيء، لَلَزِمَ أن يُجمَعَ بدنُ أصغرِ الأشياء -كالذباب مثلًا- من معظمِ العناصرِ الموجودة في العالَم جمعًا بميزانٍ خصوصي، ولكان من الواجب فضلًا عن ذلك أن تكون الذرَّاتُ العاملةُ في بدنِ تلك الذبابة الضئيلةِ الحجمِ على علمٍ بجميعِ دقائقِ سرِّ خِلقتِها وكمالِ صنعتِها.

ذلك أنه من المعلوم بداهةً وباتفاقِ عمومِ أهل العقل أن الأسباب الطبيعية والمادية لا تستطيع الإيجادَ من العدم، بل حتى لو أَوجدتْ فلا بدَّ لها أن تَجْمَع، وما دامت ستَجمع فإن في كلِّ ذي حياةٍ -أيًّا كان- نماذجَ من أكثر العناصر والأنواع، حتى كأنه بمثابةِ خلاصةٍ للكائنات أو نواةٍ لها؛ فلا ريب في هذه الحال أنه يلزم تجميعُ بِذْرةٍ من جميعِ الشجرة، وتجميعُ ذي حياةٍ من جميعِ ما على وجه الأرض، بعد الغربلةِ بأدقِّ غربال، والوزْنِ بأدقِّ ميزان.

وما دامت الأسبابُ الطبيعية جاهلةً جامدةً لا علمَ لها لتُقدِّرَ خُطةً، أو فِهرسًا، أو أُنموذجًا، أو برنامجًا، فتَصوغَ على وَفْقِه الذرَّاتِ الآتيةَ إلى القالَب المعنوي، لكيلا تتبعثر أو يختلَّ نظامُها؛ وما دام يمكن أن يكون شكلُ كلِّ شيءٍ وهيئتُه على أنماطٍ لا تُحَدّ؛ فما أبعدَه عن العقل والإمكان والاحتمال أن تتشكَّل ذرَّاتُ العناصرِ فتقومَ في كتلةٍ من غير قالَبٍ ولا مقدارٍ رغم كونها مَوَّارةً كالسَّيل، ثم تنتظِمَ فيما بينها بغير تشتُّت، في شكلٍ ومقدارٍ محدَّدَين من بين أشكالٍ ومقادير لا تُحَدُّ ولا تُعَدُّ، ثم يُعطى ذو الحياةِ وجودًا منتظمًا!! ألا إنه أمرٌ يدريه كلُّ مَن لم يكن في قلبه عَمًى.

أجل، وإنه بناءً على هذه الحقيقة، وبسرِّ الآية العظيمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾ [الحج:73]، يتبيَّن أنه لو اجتمعت جميعُ الأسباب المادية، وكان لها اختيار، ما استطاعتْ أن تَجمع جسمَ ذبابةٍ واحدةٍ، ولا أنْ تجمعَ بميزانٍ مخصوصٍ أجهزةَ هذا الجسم؛ بل حتى لو جمعتْه ما استطاعتْ أن تقيمَه بمقدارٍ معيَّن؛ بل حتى لو أقامتْه ما استطاعتْ أن تشغِّل بانتظامٍ الذرَّاتِ الآتيةَ إليه،