161

العاملةَ فيه، المتجدِّدةَ على الدوام؛ وعلى هذا فمن البدهي أن الأسباب ليست مالكةً لتلك الأشياء، وإذًا فمالكُها الحقيقيُّ غيرُ الأسباب.

أجل، فبسِرِّ الآية: ﴿مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ [لقمان:28]: إن لها مالكًا حقيقيًّا يخلق جميعَ الأحياء على وجه الأرض بسهولةِ إحياءِ ذبابة، ويوجِد ربيعًا بسهولةِ إيجادِ زهرة، ذلك أنه ليس محتاجًا لأن يَجمَع؛ إذْ بما أنه مالكُ أمرِ ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران:47]؛ وبما أنه هو الذي يوجِد في موجوداتِ كلِّ ربيعٍ صفاتِ الربيع اللامحدودة، وأحوالَها وأشكالَها اللامعدودة، فضلًا عن عناصرها الأوَّليَّة، إيجادًا من العدم؛ وبما أنه يَتَعَيَّنَ في علمِه أُنموذجُ كلِّ شيءٍ وخُطَّتُه وفِهرسُه وبرنامجُه؛ وبما أن جميعَ الذَّرَّات تتحرَّك في دائرة علمِه وقدرته؛ فإنه هو الذي يوجِد كلَّ شيءٍ بمنتهى السهولةِ كَقَدْحِ عودِ ثقاب، فلا يَحِيْد شيءٌ عن مساره مقدارَ ذرَّة، فكما أن النجوم والكواكب السيَّارات جيشُه المطيع، فالذَّرَّات كذلك بمثابةِ جيشه المنتظم.

وما دام هؤلاء يتحركون استنادًا إلى تلك القدرة الأزلية، ويعملون وفقًا لدساتير ذلك العلمِ الأزليّ، فلا ريب أنَّ هذه المصنوعات والآثار إنما تأتي إلى الوجود وفقًا لتلك القدرة، وعليه فلا تَصغُر تلك الآثارُ لِصِغَر جِرْمِها وتفاهةِ ذاتها؛ إذْ بقوةِ الانتساب إلى تلك القدرة تصرَعُ ذبابةٌ نمرودًا، وتهدِم نملةٌ قصرَ فرعون، وتحمِل بُذيرةُ صنوبرٍ صغيرةٌ كالذَّرَّة شجرةَ صنوبرٍ ضخمةٍ كالجبل.

وقد أثبتنا هذه الحقيقة في رسائل كثيرة، فكما يصير جنديٌّ -بانتسابه إلى السلطان بوثيقةِ الجندية- مظهَرَ آثارٍ تفوقُ قوَّتَه مئةَ ألفِ مرَّة، كأنْ يأسِر ملِكًا مثلًا؛ فكذلك الأمر بانتسابِ كلِّ شيءٍ إلى تلك القدرة الأزلية، إذْ يمكن أن يصير مَظهَرَ معجزاتِ الصَّنعة بما يفوق الأسبابَ الطبيعية مئةَ ألف مرَّة.

والحاصل: إن مجيء كلِّ شيءٍ إلى الوجود بمنتهى درجاتِ الإتقان والسهولة في آن، يُظهِر أنه أثرٌ من آثارِ قديرٍ أزليٍّ ذي علمٍ محيط؛ وإلا فبدون ذلك لا يكون المجيء إلى