255
بما يخالف رغبتي، وتَقضِيَتي أيامَ حياتي وحيدًا في قريةٍ خلافًا لمشربي، وتَركي بل نفوري من الكثير من روابطِ وقواعدِ الحياة الاجتماعية التي ألِفْتُها منذ القديم، لم يُبْقِ لديَّ شبهةً في أن ذلك إنما كان لأجل تأدية هذه الخدمة القرآنية المباشِرة بصورةٍ صافيةٍ خالصة.
بل أعتقد أن خلف ستار هذا الأذى الذي توالى عليَّ كثيرًا، والاضطهادِ الذي نزل بي ظلمًا، يدَ عنايةٍ تبلوني به برحمةٍ كي أحصر فكري في أسرار القرآن، ولا أشتت نظري فيما عداه.
وعلى الرغم من أنني كنت منذ القديم شغوفًا بمطالعة الكتب، إلا أنني استشعرتُ في روحي مجانبةً وامتناعًا عنها جميعًا، ولقد فهمتُ أن الأمر الذي جعلني أترك المطالعة -مع أنها مبعثُ أُنسٍ وسُلوانٍ لي في هذه الغربة- ليس إلا لتكون الآياتُ القرآنية وحدَها أستاذي المطلَق.
ثم إن أغلب هذه الكتبِ والرسائلِ المؤلَّفة قد أُحسِن بها إليَّ إحسانًا مباشِرًا لحظةَ تأليفها لحاجةٍ تولدت في روحي دون سببٍ خارجي، ثم لما عرضتُها على بعض أصحابي قالوا: إنها دواءٌ لجِراح هذا الزمان، وبعد أن انتشرتْ، فهمتُ من أكثر إخواني أنها تلبي حاجات هذا الزمان وتعالج أدواءَه.
فمجرياتُ حياتي، وهذه الحالات المذكورة الخارجة عن شعوري واختياري، وتتبُّعي لأنواع العلوم الذي جرى على خلاف عادتي وبغير اختياري، لم تُبقِ لديَّ شبهةً في أنها كانتْ إكرامًا ربانيًّا وعنايةً إلهيةً قويةً كي تُفضيَ إلى مثل هذه النتيجة القدسية.
الإشارة السابعة:
لقد شاهدنا بأعيننا -خلال هذه السنوات الخمس أو الست من خدمتنا- آثارًا للإكرام الإلهي والعناية الربانية والكرامة القرآنية تنوف على المئة بلا مبالغة؛ ولقد أشرنا إلى بعضها في «المكتوب السادس عشر»، وبيَّنَّا بعضَها الآخر في المسائل المتفرقة للمبحث