225

أما السبب الثاني لعدم مراجعتي إياهم، فهو أن المطالبة بالحق عند مَن يحسبون الظلم حقًّا: ظلمٌ للحق؛ ولا أريد ارتكاب ظلمٍ كهذا.

سؤالكم الثالث: لماذا أنت غيرُ مبالٍ إلى هذا الحد بشؤون العالَم السياسية؟ ولماذا لم تغيِّر شيئًا من موقفك إزاء كلِّ هذا القدر من التغيُّرات العالمية؟ أيُعزى سكوتك إلى رضاك بها أم إلى تخوُّفك منها؟

الجواب: إن خدمة القرآن الكريم قد منعتْني بشدةٍ من عالَم السياسة، بل أَنستْني حتى التفكيرَ فيها، وإلا فإن أحداث حياتي كلَّها تَشهد بأن الخوف ما استطاع ولن يستطيع أن يكبِّلني أو يمنعَني من المُضيِّ في الطريق الذي رأيتُه حقًّا.

ثم مِمَّ أخاف وليس لي مع الدنيا علاقةٌ سوى الأجل؟! ليس لي عيالٌ وأولادٌ أهتم بهم، ولا عندي أموالٌ أنشغل بها، وليس لي شرَفُ حَسَبٍ أراعيه، وإنما لي سمعةٌ ليستْ سوى شهرةٍ كاذبةٍ ملأى بالرياء، فرَحِم الله امرأً أعانني على تقويضها لا على رعايتها؛ فلم يَبْقَ سوى أجلي، وهو بيد الخالق ذي الجلال، فمن يجرؤ على المساس به قبل أوانه؟! بل نحن ممن يختارون الموت بعزَّةٍ على العيشِ بذِلةٍ؛ ولقد قال أحدهم كـ«سعيدٍ القديم»:

ونحن أناسٌ لا تَوَسُّطَ بيننا

لنا الصَّدر دون العالَمين أو القبرُ

[البيت لأبي فراسٍ الحمداني، انظر: «ديوانه» ص09؛ هـ ت]

فإنما هي خدمة القرآن تمنعني من الاهتمام بالحياة الاجتماعية السياسية للبشر، وذلك أن حياة البشرية ليستْ سوى رحلة، ولقد رأيت بنور القرآن في هذا الزمان أن طريق الرحلة قد أفضى إلى مستنقعٍ مُوحِل، وقافلةُ البشر تتعثر في مسيرها، فلا تكاد تنهض حتى تسقط في حمأةٍ ملوَّثةٍ آسِنة، إلا أن فريقًا منها يمضي في طريقٍ آمنة، وفريقٌ آخرُ قد وجد وسائل تَقِيْه المستنقعَ وأوحالَه قدر المستطاع، أما البقية -وهم الأكثرية- فيخوضون غمرات هذا المستنقع القذر الموحل وسط ظلامٍ دامس.