213

وكان له في الليل أورادٌ يواظب على قراءتها، وهي مجموعةٌ من السور القرآنية، تليها المناجاة المسماة «الجَوشَنَ الكبير»، وهي مناجاةٌ مشهورةٌ مأثورة، ثم مناجاةُ وأحزابُ كبار الأولياء، كالشَّاه الجيلاني والشَّاه النَّقشبندي، [هو الشيخ بهاء الدين، محمد بنُ محمد بنِ محمد، ولد سنة 717 هـ ببلدة «قصر عارفان» القريبة من بخارى، طلب العلم في أول نشأته، ثم سلك طريق التزكية على يد كبار شيوخ زمانه حتى بلغ فيه مبلغًا عظيمًا، تربَّى على يديه خلقٌ كثيرٌ من المريدين، وعُرِفت طريقته بالنقشبندية لتأكيده على ذكر الله تعالى ذكرًا خفيًّا حتى يُنقَشَ في القلب، توفي سنة 791هـ؛ هـ ت] ثم الصلوات النُّوريَّة لا سيَّما «الحزب النُّوري» الذي هو منبع رسائل النور، وغير ذلك من المناجَيات والأحزاب التي هي لمعاتُ آياتٍ قرآنيَّة، وسلسلةُ تفكُّرٍ إيمانيٍّ مجموعةٌ في «اللَّمعة التاسعة والعشرين»، فإذا فرَغَ من قراءتها اشتغل برسائل النور؛ أما في النهار فكان يعكف دائمًا على الرسائل مطالعةً وتصحيحًا، ويُقدِّم خدمتها على ما سواها من الأعمال، وكان إذا طرأ أمرٌ يخصُّها ترك جميع ما بيده من المشاغل وتوجَّه لإتمامه أولًا.

وكان يصعد في فصل الربيع إلى خُصِّه بين أغصان شجرة الدُّلب العظيمة، فيؤدي وظيفته هناك مطالعًا متفكرًا مستلهمًا حقائق رسائل النور من منبعها ومعدنها الحقيقي العُلويّ؛ فهل يا تُرى يمكن لعبارةٍ أن تفي بوصفِ تفكُّرِ الأستاذ ومشاعره على رؤوس تلك الجبال والأشجار التي كان يأنس بها كثيرًا في جبل «چام» أو على شجرة الدُّلب التي غدتْ مَظهرًا لِسرِّ: ﴿شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾ [النور:35]؟!

تعجز الكلمات عن وصف ذلك في الحقيقة؛ فلقد خلق الله تعالى بكمال رحمته هذا الفرد الفريد باستعدادٍ جامعٍ لأنواعِ الكمالات الإنسانيَّة، وشاء أن يُظهِر هذه الاستعدادات في أعظم صورة، فجعل هذا الشخصَ المميَّز بمثابةِ أستاذ الكلِّ في جميع الحقائق، باعتباره الشخصَ المعنويَّ لرسائل النور التي مدَّت شجرة الإسلام فنشرتْ أغصانَها وفروعَها على العصور اللاحقة، وجعل أهلَ الحقيقة والكمال ينظرون بإعجابٍ