436

وتُصْرَف بنحوٍ يفوق المألوف حتى رُوي أن «أربعة أنهارٍ تجري من الجنة»، [الحديث أخرجه أحمد في مسنده برقم 7535 ولفظه: «فُجِّرَتْ أربعةُ أنهارٍ من الجنة، الفرات والنيل وسَيْحان وجَيْحان»، وصححه أحمد شاكر، وأصله في صحيح مسلم، في كتاب صفة الجنة؛ هـ ت] بمعنى أن هذه الأنهار لكونها فوق الأسباب الظاهرة بكثير، لا بدَّ أنها تنبُعُ من خزينةِ جنةٍ معنوية، وتجري من فيضِ منبعٍ غيبيٍ لا يَنضُب.

فمثلًا النيلُ المبارَكُ الذي حوَّل صحراء مصر إلى جنة، ينبع من الجنوب من جبلٍ يدعى «جبل القمر»، ويجري بلا انقطاعٍ كبحرٍ صغير، فلو أن صَرْفيَّاته في ستة أشهرٍ جُمِعتْ وجُمِّدتْ لكانت أعظم من ذلك الجبل، مع أن حيِّزَها منه ومخزنها فيه لا يبلغان سُدُسَه!

أما وارداته فلا يُخزَن في مخازنه إلا اليسيرُ من مياه الأمطار، لشحِّها في تلك المنطقة الحارة، ولشدة عطش أراضيها التي سُرعان ما تمتصُّ الماء؛ فلا يمكن للمطر البتَّةَ أن يحافظ على ذلك التوازن الواسع بين الواردات والصَّرْفيَّات؛ ولهذا فإن الرواية التي تفيد أن النيل المبارك ينبع من جنةٍ غيبيةٍ فوق العادات الأرضيَّة [جاء في حديث الإسراء والمعراج في الصحيحين أنه (ص) رأى عند سدرة المنتهى أربعة أنهار، «نهران ظاهران ونهران باطنان، فقلتُ: يا جبريل، ما هذه الأنهار؟ فقال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات»؛ صحيح البخاري، كتاب مناقب الأنصار، صحيح مسلم، كتاب الإيمان؛ هـ ت] تُعبِّرُ عن حقيقةٍ في غايةِ المعنى والجمال.

وهكذا رأى من البحار والأنهار شهادةً واحدةً وحقيقةً واحدةً من بين آلاف الشهادات والحقائق العظيمة كالبحار؛ ووعى أن عمومها يُردِّدُ بالإجماع وبقوةِ عِظَمِ البحار: لا إله إلا هو، وأنها تُبرِز على هذه الشهادة شهودًا بعدد مخلوقات البحار.

وتعبيرًا عن معنى شهاداتِ البحار والأنهار ذُكِر في المرتبة الرابعة من المقام الأول:

لا إله إلا الله الواجبُ الوجود، الذي دَلَّ على وجوبِ وجوده في وَحدته جميعُ البحارِ والأنهار بجميعِ ما فيها، بشهادةِ عَظَمَةِ إحاطةِ حقيقةِ التسخيرِ والمحافظةِ والادِّخارِ والإدارة الواسعةِ المنتظَمةِ بالمشاهدة.