437

ثم إن الجبال والصحارى نادَتْ ذلك المسافر المستغرق في السياحة الفكرية، فقالت له: اقرأ صحائفَنا أيضًا؛ فنظر، فرأى أن وظائفَ الجبال الكُليَّةَ وخدماتها العموميَّةَ قد بلغَتْ من العَظَمةِ والحكمةِ ما يُحيِّر العقول.

منها مثلًا أن الجبال برزتْ من الأرض بأمرٍ رباني، فسكَّنتْ حِدَّتَها وغضبَها وهيجانَها الناشئ من الانقلابات الداخلية في باطنها؛ وأنَّ الأرضَ تتنفَّس بثَوَران الجبال عبر منافذها، فتتخلَّص من الهزَّات والزلازل التي تُلحِق الأضرار، فلا تُفسِد راحةَ ساكنيها أثناء دورانها.

إذًا، فكما تُقامُ السفينة على الصَّواري لتحفظ توازنها وتقيَها من الاضطراب، فالجبالُ كذلك بهذا المعنى صَوارٍ ذاتُ خزائن لسفينةِ الأرض، كما يُعلِن ذلك القرآنُ المعجِزُ البيانِ في آياتٍ كثيرةٍ مثل: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ [النبأ:7]، ﴿وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ [الحِجر:19]، ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ [النازعات:32].

ومثلًا إن ما يوجد في باطن الجبال من أنواعِ الينابيع والمياه والمعادن والمواد والأدوية اللازمة لذوي الحياة، قد رُتِّب وادُّخِرَ وأُحضِرَ ببالغِ الحكمة والتدبير والكرم والاحتياط؛ بحيث تُثْبِتُ هذه الجبال بداهةً أنها خزائنُ ومستودعاتٌ وخَدَمٌ لقديرٍ لا نهايةَ لقدرته، حكيمٍ لا نهايةَ لحكمته.

عَقَلَ السائحُ هذا، ثم قاس على هاتين الجوهرَتَين سائرَ وظائفِ الجبال والصحارى وحِكَمِها العظيمة عَظَمَةَ الجبال، فوجدها بعموم حِكَمِها -خصوصًا من جهةِ ادِّخاراتها الاحتياطية- توحِّدُ وتَشهَدُ قائلةً: لا إله إلا هو، شهادةً وتوحيدًا بقوَّةِ الجبال وثباتها، وبِعِظَمِ الصحارى وسَعَتِها؛ فقال: آمنتُ بالله.

وللتعبير عن هذا المعنى ذُكِر في المرتبة الخامسة من المقام الأول:

لا إله إلا الله الواجبُ الوجودِ، الذي دَلَّ على وجوبِ وجوده جميعُ الجبال والصحارى بجميعِ ما فيها وما عليها، بشهادةِ عَظَمَةِ إحاطةِ حقيقةِ الادِّخارِ والإدارةِ ونشرِ البذورِ والمحافظةِ والتدبيرِ، الاحتياطيَّةِ الربانيَّةِ الواسعةِ العامَّةِ المُنتَظَمةِ المُكَمَّلةِ بالمشاهدة.

ثم بينما كان المسافر يتجوَّل بفكره في الجبال والصحارى إذِ انفتح له بابُ عالَمِ الأشجار والنباتات، فدَعَتْهُ قائلةً: هلُمَّ تجوَّلْ في عالَمِنا، واقرأ سطورنا أيضًا؛ فدخل، فرأى مجلسَ توحيدٍ وتهليلٍ قد أُقيم بغايةِ الأُبَّهة، وحلقةَ ذِكرٍ وشُكرٍ قد شُكِّلتْ بغايةِ الزينة، ووعى من ألسنةِ أحوالِها كأنها تُردِّد معًا وبالإجماع: لا إله إلا هو.

ذلك أنه رأى ثلاث حقائق كليَّةٍ كبرى تدلُّ وتشهَدُ على أن جميعَ النباتات والأشجار المثمرة تشهَد مُسَبِّحةً بألسنةِ أوراقِها الفصيحةِ الموزونة، وبأقوالِ أزهارِها الجَزْلةِ المزيَّنة، وبكلماتِ ثمراتِها البليغةِ المنتظَمة، فتقول: لا إله إلا الله.

أُولاها: حقيقةُ ومعنى الإنعام والإكرام المقصودَين، والإحسانِ والامتنانِ الاختياريَّين؛ وهو أمرٌ ظاهرٌ فيها بأجلى صورة، فكما يُحَسُّ به في كلِّ فردٍ من أفرادها، يُشاهَدُ كذلك في مجموعها كالشمس في رابعة النهار.

ثانيتُها: التمييزُ والتفريقُ بحكمةٍ وقصدٍ، والتزيينُ والتصويرُ باختيارٍ ورحمةٍ؛ وهو أمرٌ لا يمكنُ إحالتُه على التصادف بأيِّ وجه، بل يُشاهَد حقيقةً ومعنًى فيما لا يُحَدُّ من الأنواع والأفراد واضحًا كالنهار، ويُظهِرُ أنها آثارُ صانعٍ حكيمٍ ونقوشُه.

ثالثتُها: فتحُ صُورِ مئاتِ آلافِ الأنواعِ من تلك المصنوعات اللامحدودة؛ كلٌّ بشكله وطِرازِه؛ بغايةِ الانتظام والميزان والزينة، من بذورٍ وحبَّاتٍ محدودةٍ معدودةٍ متماثلةٍ، بسيطةٍ جمادٍ، متطابقةٍ أو متشابهةٍ، مختلِطةٍ؛

ففَتْحُ صورِ جميعِ أنواعها البالغة مئتَي ألفٍ، وفَلْقُها كُلًّا على حِدَةٍ بتمايزٍ وانتظامٍ، وبموازنةٍ وحيويةٍ وحكمةٍ من غير خطأٍ ولا اختلاط، حقيقةٌ أسطع من الشمس، يُثْبِتُها شهودٌ بعددِ أزهار الربيع وأثمارِه وأوراقِه وموجوداتِه.