448

أي: ما دام يُفهَمُ بالبداهةِ وجودُ ذاتٍ خلفَ حجاب الغيب يريدُ أن يُعرِّفَ نفسَه في عالَم الشهادة الجسمانيِّ بما لا يُحَدُّ من مصنوعاته المتقَنةِ المرصَّعة، ويريد أن يتحبَّبَ بما لا يتناهى من نِعَمِه الجميلة المزيَّنة، ويريد أن يُخبِرَ عن كمالاته الخفيَّة بما لا يُحصى من آثاره المعجِزة البديعة.. يريد ذلك كلَّه ويُعلِن عن نفسه بالأفعال ولسانِ الحال إعلانًا أظهَرَ من التكلُّم والمقال؛ فلا بُدَّ أنه يُعرِّف نفسَه ويتحبَّب ويتكلَّمُ قولًا وتكلُّمًا، مثلما عرَّف نفسَه وتحبَّب وتكلَّمَ فعلًا وحالًا؛ وما دام الأمر كذلك فينبغي علينا أن نَعرِفه من ظُهوراته في عالَم الغيب.

فدخل قلبُه إلى ذلك العالَم، ورأى بعينِ عقلِه حقيقةَ الوحي تهيمن في كلِّ آنٍ على جميع أطراف عالَم الغيب بظُهوراتٍ في غاية القوة؛ ورأى أنه تأتي من قِبَل علَّامِ الغيوب عبر حقائقِ الوحي والإلهام شهادةٌ على وجوده ووحدته سبحانه أقوى بكثيرٍ من شهادات الكون والمخلوقات؛ إذْ لا يَترك ذاتَه ووجودَه ووَحدتَه لشهاداتِ مصنوعاته وحدَها، بل يتكلَّم بكلامٍ أزليٍّ يليق بذاته؛ ولا حدَّ لكلامِ مَن هو حاضرٌ ناظرٌ في كلِّ مكانٍ بعلمه وقدرته؛ وكما يُعرِّفه معنى كلامِه، فإن تكلُّمَه يُعرِّفه بصفاته.

أجل، لقد عَلِمَ هذا المسافرُ أن ثبوتَ حقيقةِ الوحي وتحقُّقَها قد بلغتْ درجةَ البداهة، وذلك من خلال تواترِ مئةِ ألفٍ من الأنبياء عليهم السلام؛ واتفاقِ إخباراتِهم من حيث هي مَظهَرٌ للوحي الإلهي؛ ومن خلال معجزاتِ ودلائلِ الكتبِ المقدَّسة والصحف السماوية التي هي ثمراتُ الوحي ووحيٌ مشهود، والتي صدَّقتْها الأكثريةُ المطلقة من النوع البشري واتخذتْها دليلًا وإمامًا.

ووعى أنَّ حقيقةَ الوحي تُعبِّر عن خمسِ حقائق قدسيةٍ وتُفيضُها:

أُولاها: ما يُطلَق عليه «التَّنَزُّلات الإلٰهية إلى عقول البشر»، فمخاطبةُ البشر بحسَبِ عقولهم وفُهُومهم تَنزُّلٌ إلهي.