429

إن هذه الربوبية الظاهرة، وما تبدَّى في فعَّاليَّتها من حقيقةٍ مركَّبةٍ من التسخير والتدبير والتدوير، والتنظيم والتنظيف والتوظيف، لَتَشهَد بعَظَمَتِها وإحاطتها -كما هو مشاهَد- على وجوبِ وجودِ خالقِ تلك السماوات ووَحدته؛ وعلى أن وجودَه أظهَرُ من وجود السماوات؛ وقد ذُكِر هذا بمعناه في المرتبة الأولى من المقام الأول فقيل فيه:

لا إلهَ إلا اللهُ الواجبُ الوجودِ، الذي دلَّ على وجوبِ وجودهِ في وَحدتهِ السماواتُ بجميعِ ما فيها، بشهادةِ عَظَمَةِ إحاطةِ حقيقةِ التَّسخيرِ والتَّدبيرِ والتَّدويرِ، [يتضمن هذا اللفظ في هذا المقام معنى «الإدارة» أيضًا؛ هـ ت] والتَّنظيمِ والتَّنظيفِ والتَّوظيفِ الواسعةِ المُكَمَّلَةِ [المقصود بلفظ «المُكمَّل» أو «المُكمَّلة» حيثما ورد في عبارة الأستاذ: البديعُ الفائق، أو العظيمُ الباهر؛ هـ ت] بالمُشاهَدة.

ثم إن جوَّ السماء الذي هو محشرُ العجائب هتفَ مخاطبًا ذلك الضيفَ المسافر القادِمَ إلى الدنيا، فقال له بصوتٍ هادرٍ: اُنظر إليَّ، فمعي يمكنك أن تجِدَ مَن تبحثُ عنه بشغَف، وتعرفَ من أرسلك إلى هنا.

نظر الضيف إلى وجه الجو.. مكفهرٌّ لكنَّه رحيم؛ وسمع هديره.. مفزِعٌ لكنَّه مبشِّر؛ فرأى السحاب المعلَّق بين السماء والأرض يؤدي وظائف في غايةِ الحكمة والرحمة، إذْ يسقي بستانَ الأرض؛ ويُمِدُّ أهلَها بماءِ الحياة؛ ويُعدِّلُ الحرارة؛ ويُسْرِع لنجدةِ كلِّ بقعةٍ بحسَب حاجتها.

وفضلًا عن هذه الوظائف وأمثالها من الوظائف الأخرى الكثيرة، فإنه رأى السحاب يملأ الجوَّ فجأةً ثم يختفي وتَذهب جميعُ أجزائه للاستراحة فلا يُرى لها أثر، كأنه جيشٌ منتظمٌ يَظهَر ويتوارى وفقًا لأوامر فورية؛ حتى إذا ما تلقَّى الأمر: «انطلق للإمطار» اجتمع فملأ الجو في غضون ساعةٍ، بل في دقائق، ووقف كأنه ينتظر أمر القائد.

ثم نظر المسافرُ إلى الرياح في الجو، فرأى أن الهواءَ يُستخدَم في وظائفَ جمَّةٍ بغاية الحكمة والكرم، حتى كأن كلَّ ذرةٍ من ذَرَّاتِه التي لا شعور لها تَسمعُ الأوامرَ الصادرة من