430

سلطان الكون، فتَعرِفُها وتنفِّذها بقوته، وتؤدِّيها بانتظامٍ دون إهمالٍ أو إبطاء؛ فتؤمِّن النَّفَس لكلِّ نَفْسٍ على هذه الأرض، وتنقل المواد اللازمة للأحياء كالحرارة والضياء والكهرباء، وتنقل الأصوات، وتكون واسطةً لتلقيح النباتات، إلى غير هذا من الوظائف والخدمات الكُلِّية الجمَّة التي تَستخدِمها فيها يدٌ غيبيةٌ استخدامًا بمنتهى الشعور والعلم والحيوية.

ثم نظر إلى المطر، وتأمَّل في قطراته اللطيفة البرَّاقة العذبة المرسَلةَ من العدم ومن خزينةِ رحمةٍ غيبية، فرأى فيها وظائفَ وهدايا رحمانيَّةً جمَّةً، حتى لكأنَّ الرحمة تجسَّدتْ في هيئةِ قطراتٍ تنسابُ من الخزينة الربَّانية، ولأجل هذا سُمِّي المطر «رحمةً». [يسمى المطر في اللغة التركية «رحمةً» اقتباساً من تسمية القرآن له بذلك؛ هـ ت]

ثم نظر إلى البرق، واستمع إلى الرعد، فوجدهما يُستخدمان في خدماتٍ عجيبةٍ غريبةٍ جدًّا.

ثم حوَّل نظره والتفت إلى عقله وقال لنفسه: لا شك أن هذا السحاب الجمادَ العديمَ الشعور، الشبيهَ بالقطن المندوف، لا يعرفنا، ولا يُسارِع لإمدادنا إشفاقًا علينا من تلقاء نفسه؛ ولا ريب أنه لا يَظهَر أو يَختفي بغيرِ أمرٍ؛ بل لا بد أنه يتحركُ بأمرِ آمرٍ قديرٍ غايةَ القدرة، رحيمٍ غايةَ الرحمة؛ فيختفي دون أن يترك أثرًا، ويظهَر فجأةً ليقوم على رأس عمله، فيملأ عالَم الجو ويُخْلِيْهِ -بين حينٍ وآخر- بقرارٍ وقوةٍ من سلطانٍ فعَّالٍ متعالٍ، عظيمٍ ذي جلال، لا يزال يكتب على لوح عالَم الجوِّ بحكمةٍ، ويمحو بالإعفاء، ويجعل منه لوحَ محوٍ وإثبات، وصورةَ قيامةٍ وحشر.

ولا شكَّ أيضًا أن هذا السحاب يَركب متنَ الرياح بتدبيرِ مُدبِّرٍ حكيمٍ في غاية اللطف والإحسان، وفي غاية الربوبية والكرم، يركَبها وهو يُقِلُّ خزائنَ مطرٍ أمثالَ الجبال، فيُغيثُ بها الأماكنَ المحتاجة، كأنه يَرِقُّ لحالها فيبكي بعيونٍ دامعةٍ، ويرسُم البسمة بالأزاهير، ويُلطِّف لَفْحَ الشمس، ويرُشُّ الماء على البساتين كأنه إسفنجة، ويغسِل وجه الأرض وينظِّفه.