469

ثم إن هذا الضيفَ المذكور وعابرَ سبيلِ الحياة الذي عرَف أن الإيمان هو أثمنُ رأسِ مالِ الإنسان؛ إذْ لا يُملِّك الإنسانَ الفقيرَ مزرعةً فانيةً أو دارًا مؤقتةً، بل يُملِّكه الكونَ العظيم، ويمنحُه مُلكًا باقيًا عَرضُه السماوات والأرض؛ ويهيِّئ له -وهو الفاني- لوازمَ حياةٍ أبدية؛ وينقذه -وهو المسكينَ الذي ينتظر مشنقة الأجل- ويُخلِّصه مِن الإعدام الأبدي؛ ويفتح له كنوز السعادة السرمدية؛ قال لنفسه:

هيا نتقدَّم؛ فلكي نحظى بمرتبةٍ أخرى من مراتب الإيمان اللامحدودة علينا أن نراجع مجموعَ هيئةِ الكون فنسمعَ ماذا يقول، لنُكَمِّل وننوِّر الدروسَ التي تلقيناها من أجزائه وأركانه.

فنَظَر إلى الكون بمنظارٍ واسعٍ محيطٍ أخذه من القرآن، فرآه على قدرٍ عظيمٍ من الدلالة والانتظام، بحيث يبدو ككتابٍ سبحانيٍّ مجسَّم، وقرآنٍ ربانيٍّ مجسَّد، وقصرٍ صمدانيٍّ مزيَّن، وبلدٍ رحمانيٍّ منظَّم.

ورأى أن جميعَ سُوَرِ هذا الكتاب وآياتِه وكلماتِه، بل حتى حروفِه؛ وكذا جميعُ أبوابه، وفصوله، وصفحاته، وسطوره؛ بما يجري عليها في كل حينٍ من محوٍ وإثباتٍ بالغِ الدِّلالة، وتغييرٍ وتبديلٍ بالغِ الحكمة، مثلما تُعبِّر بداهةً وبالإجماع عن وجودِ وموجوديَّةِ نَقَّاشٍ ذي جلال، كاتبٍ ذي كمالٍ، عليمٍ بكل شيء، قديرٍ على كلِّ شيء، مصنِّفٍ يرى كلَّ شيءٍ في كلِّ شيء، ويَعلم مناسبةَ كلِّ شيءٍ مع كلِّ شيء، فيراعي جميعَ ذلك؛ فإنها بجميع أركانها وأنواعها، وأجزائها وجزئيَّاتها، وسكَّانها ومُشْتَمِلاتها، ووارداتها ومصاريفها، وتبديلاتها القائمة على المصلحة، وتجديداتها القائمة على الحكمة؛ تُعلِن بالاتفاقِ عن موجوديَّةِ ووَحدةِ صانعٍ فريدٍ، وخبيرٍ عالٍ، يعمل بقدرةٍ لا حدَّ لها، وحكمةٍ لا منتهى لها.

كما رأى أنّ ثمة حقيقتَين عظيمتَين واسعتَين متناسبتَين مع عَظَمَةِ الكون تثبتان شهادةَ الكون العظيمةَ هذه وتَشهَدان لها: