470

الحقيقة الأولى: حقيقة «الحدوث والإمكان»، التي أبصرها حكماءُ الإسلام وعباقرةُ علماءِ أصول الدين وعلمِ الكلام، وأثبتوها بما لا يُحَدُّ من البراهين.

فقد قال هؤلاء: ما دام التغيُّر والتبدُّل جاريًا في العالَم وفي كل شيء، فلا بدَّ أنه حادثٌ فانٍ ليس بقديم..

وما دام حادثًا فلا بدَّ له من صانعٍ أحدَثَه..

وما دام يستوي في ذات الشيءِ وجودُه وعدمُه ما لم يوجد سبب؛ فلا يمكن على الإطلاق أن يكون واجبًا أو أزليًّا.

وما دام قد ثبت بالبراهين القطعية عدمُ إمكانِ إيجادِ الأشياءِ بعضَها بعضًا بالدَّور أو بالتسلسل الباطِلَيْن المُحالَيْن..

فيلزَم إذًا بلا شكٍّ موجوديَّةُ واجبِ وجودٍ؛ يكون نظيرُه ممتنعًا، ومِثلُه مُحالًا، وجميعُ ما عداه ممكنًا، وما سواه له مخلوقًا.

أجل، لقد هيمنتْ حقيقةُ الحدوثِ على الكون، فترى العينُ أكثرَها، ويرى العقلُ سائرَها.

ذلك أننا نشاهد في كل سنةٍ عالَمًا هائلًا يفارق الحياة أمامَ أعيننا في فصل الخريف، إذْ يُتوفَّى مئةُ ألفِ نوعٍ من النباتات والحشرات، كلُّ نوعٍ له أفرادٌ لا تُحَدّ، وكلُّ فردٍ بمثابةِ كَوْنٍ تسري فيه الحياة؛ غير أنَّها وفاةٌ تجري بمنتهى الانتظام، إذْ تُخلِّفُ تلك الكائناتُ بذورَها ونواها وبويضاتها -التي منها يكون حَشْرُها ونَشْرُها في الربيع، والتي هي كذلك معجزاتُ الرحمة والحكمة، وبدائعُ العلم والقدرة- وتُسَلِّمها برامجَ أعمالها وجداولَ وظائفها التي أدَّتْها، وتستودعها أمانةً لدى حكمةِ الحفيظ ذي الجلال وحمايته، ثم تموت؛ حتى إذا جاء فصل الربيع بُعِثَت تلك الأشجارُ والجذورُ المتوفَّاة، وعادتْ بأعيانها إلى الحياة، وأُوْجِدتْ أمثالُ تلك الحشرات وأُحْيِيَتْ أشباهُها، فكانت جميعُ