432

ورأى هذه القطرات الجميلة اللطيفة المباركة تُخلَقُ ببالغِ الانتظام والجمال، وتُرسَل وتَهطِل بميزانٍ وانتظامٍ عجيبين -خصوصًا البَرَدَ الذي يأتي في الصيف- بحيث لا يمكن أن تُخِلَّ بهذا الميزان والانتظام الرياحُ العاتيةُ ذات الأعاصير التي تتصادم لشدتها الأشياءُ الضخمة، بل لا يمكنها أن تُصادم بين قطراته فتَجمع بينها وتؤلِّفَ منها كُتَلًا تُخلِّف الأضرار.

ورأى هذا الماءَ المركَّب من مادَّتين بسيطتَين جامدتَين لا شعور لهما -هما مُولِّد الماء ومولِّد الحموضة، أي الهيدروجين والأوكسجين- يُستَعْمَل في أعمالٍ بالغةِ الحكمة خصوصًا للأحياء، ويُسْتَخدَم في مئاتِ آلافِ الخدمات والصنائع الحكيمة الشُّعوريَّة المختلفة.

إذًا، فهذا المطر الذي هو بذاته رحمةٌ مجسَّمة، لا يُصنَع إلا في خزينةِ الرحمة الغيبية للرحمن الرحيم؛ وبنزوله يفسِّرُ الآيةَ: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ﴾ [الشورى:28] تفسيرًا عمليًّا.

ثم استمعَ إلى الرعد، ونظر إلى البرق، فرأى هاتين الحادثتَين الجويَّتَين العجيبتَين تُفسِّران تمامًا الآيتين: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾ [الرعد:13]، و: ﴿يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ﴾ [النور:43] تفسيرًا عمليًّا، وتُخبران فضلًا عن ذلك بقدوم المطر وتُبشِّران به المحتاجين.

أجل، إنَّ إنطاقَ الجو فجأةً بِدَوِيٍّ هادرٍ من لا شيء، وتبديدَ ظلمته بضوءٍ باهرٍ من نورٍ ونار، وإشعالَ سُحُبٍ أمثالِ جبالٍ من قطنٍ هي بمثابةِ مِضخَّاتِ ماءٍ وثلجٍ وبَرَد، ونحوَ هذه الوضعيَّات الغريبة الحكيمة، لَتَقْرَعُ رأسَ الإنسان الغافل المُكِبِّ على وجهه وتقول له مُنبِّهةً: اِرفع رأسك، اُنظر إلى عجائب ذلك الفعَّال القدير الذي يريدُ أن يعرِّفِ نفسَه، فكما أنك لستَ سدًى، فكذلك هذه الحوادث لا يمكن أن تكون سدًى، بل كلُّ واحدةٍ منها تؤدي وظائفَ ذات حِكَمٍ جمَّة، وتُستَخدَم من قِبَلِ مدبِّرٍ حكيم.