277
هذا مع العلم بأنه لو ثبت الجُرْم المُسنَد إليهم حقًّا لحُكِم على سعيد النُّورْسِيّ بالإعدام، ولحُكِم على الآخَرين ممن معه بالسجن مع الأشغال الشاقة على الأقل؛ ولهذا اعترض بديع الزمان على هذا القرار الذي لا أساس له، وبيَّنَ أن مثل هذا الحكم إنما يليق إنزالُه بمن يسرق بغلًا أو يخطف فتاةً، وأصرَّ على أنْ يكون قرار المحكمة منطقيًّا رصينًا، فإما أن يُحكَم ببراءته، أو يُحكَم بإعدامه أو سجنه مئةَ سنةٍ وسنة.
ولا يمكننا أن نمرَّ هنا دون أن ننقل حادثةً عجيبة، وهي أنه لما كان بديع الزمان في السجن، رآه يومًا المدعي العامُّ لـ«أسكي شَهِر» في السوق، فجاء إلى مدير السجن تعتريه الدهشة والحيرة، وهدَّده بالفصل من الوظيفة قائلًا: لماذا تركتم بديع الزمان يخرج إلى السوق؟! لقد رأيتُه هناك للتوِّ!!
فأجابَه المدير: كلا يا سيدي، إن بديع الزمان في السجن، بل في زنزانته الانفرادية، تفضَّل وانظر.
فذهبا ونظرا فإذا الأستاذ في مكانه؛ وشاعتْ هذه الواقعة العجيبة في قصر العدل، وتناقلَها القضاة فيما بينهم قائلين: لا تستطيع عقولنا استيعاب هذا. [حدثت واقعةٌ أخرى كهذه حين كان بديع الزمان في سجن «دَنِزْلي»، فقد رآه الناس أكثر من مرة في مساجد مختلفة في صلاة الفجر، وسمع بذلك المدعي العام، فقال لمدير السجن غاضبًا: بلغني أنكم سمحتم لبديع الزمان بالخروج لصلاة الفجر في المسجد! فحقَّق المدير في الأمر وأكَّد أن الأستاذ لم يُخرَج من السجن على الإطلاق.
وفي حادثةٍ أخرى كذلك، بينما كان مدير سجن «أسكي شَهِر» جالسًا مع كاتبه في يوم جمعةٍ، إذْ سمع صوتًا يناديه: سيادةَ المدير.. سيادةَ المدير، فنظر فإذا بديعُ الزمان يقول له بصوتٍ مرتفع: لا بد أن أحضر اليوم في «جامع آق»، فأجابه المدير: حسنًا سيدي، ثم عاد إلى مكتبه وهو يتمتم قائلًا: يبدو أن فضيلته لا يدري أنه في السجن ولا يمكنه الخروج.
ولما حان وقت الظهر ذهب مدير السجن إلى غرفة الأستاذ ليطيِّب خاطره، فنظر من النافذة، فلم يجده، فسأل الحارس، فأجابه: كان في الداخل، ثم إن الباب مُقْفَل، فهبَّ مسرِعًا إلى المسجد، ليشاهد بديعَ الزمان يؤدي الصلاة في الجهة اليمنى من الصف الأول، ولما شارفت الصلاة على الانتهاء لم يجد بديعَ الزمان في موضعه، فعاد من فورِه إلى السجن، ليجده بدهشةٍ يهوي إلى السجود قائلًا: الله أكبر؛ وقد روى هذه الحادثةَ مدير السجن نفسُه؛ المُعِدّون]

***