548

فما دمنا نشاهد هذه الرحمة والشفقة والكرم كالشمس، فلا ريب أن الكريم الرحيم الذي يرعى أحباءه المؤمنين الشاكرين العابدين، ويَغْذُوهم بهذا القدر من اللطف والرأفة لا يُعدِمهم، بل يُعفيهم ويسرِّحهم من أعباء وظيفة الحياة الدنيوية، ليكونوا مَظهَر رحمةٍ أسطع.. هذا ما يجيبنا به اسم «الرحيم» واسم «الكريم» قائلًا: إن الجنة حق.

ثم إننا نشاهد بأعيننا يدَ حكمةٍ بالغةٍ تعمل في هذه الأرض وفي جميع المخلوقات، ونشاهد الأعمال تجري وفق مقاييسِ عدالةٍ فائقة، بحيث يعجز عقل البشر أن يتصوَّر ما هو أفضل من ذلك؛ إذْ نشاهد مثلًا حكمةً أزليةً أوجدتْ في الإنسان قوةً حافظةً، وجعلتْها بمثابةِ مكتبةٍ مصغَّرةٍ تُوثِّق فيها قصةَ حياته وما يتعلق بها من أحداثٍ لا تحصى، وأودعتْها في ناحيةٍ من دماغه لا تتجاوز حجمَ حبةٍ صغيرةٍ كمستندٍ صغيرٍ يذكِّر الإنسانَ على الدوام بدفتر الأعمال الذي سيُنشَر عند محكمة الإنسان يوم الحشر؛ وما هذا التذكير إلا حكمةٌ واحدةٌ من حِكم الأجهزة الكثيرة التي رُكِّبتْ فيه.

ونشاهد كذلك مثلًا عدالةً سرمديةً تُركِّب أجزاءَ المخلوقات وأعضاءَها كلٌّ في موضعه بميزانٍ في غاية الدقة والحساسية، وتنشئ المصنوعات تُحفًا بديعةً بتناسبٍ وتوازنٍ وانتظامٍ وجمالٍ وفق مقاييس لا يشوبها إسراف، من الجرثومة إلى الكركدن، ومن الذبابة إلى الرُّخّ، [الرُّخ أعظم الطيور حجمًا، قال في القاموس المحيط: «الرُّخ طائرٌ كبيرٌ يحمل الكركدن»؛ وهو من الطيور التي انقرضت؛ هـ ت] ومن النبتة المُزْهِرة إلى زهر الربيع الذي يتفتح عن ملايين بل مليارات الأزهار، وتَمنح كلَّ ذي حياةٍ حقوقَ حياته بكمال الميزان، وتُرتِّب النتائجَ السيئة على الإساءة والنتائجَ الحسنة على الإحسان، وتُشعِر بوجودها بقوةٍ من خلال الصفعات التي تُنزلها بالطغاة والأقوام الظالمين منذ عهد آدم إلى الآن.

فما دمنا نشاهد هذا عِيانًا، فلا ريب أنه مثلما لا تكون الشمس بدون نهار، فكذلك هذه الحكمة الأزلية والعدالة السرمدية لا تكونان بدون آخرة، ولا تسمحان بأيِّ