358

ثم إنني كلما راجعتُهم ولجأتُ إليهم عذَّبَني القدر الإلهي العادل بأيديهم الظالمة، ذلك أنهم يُضيِّقون عليَّ لتمسكي بالدين، والقدرُ يضيق عليَّ لتقصيري في الدين والإخلاص، ولمراءاتي أهلَ الدنيا أحيانًا، وما دام الأمر كذلك فلا خلاص من هذا التضييق، فإن راجعتُ أهل الدنيا قال لي القدر: أيها المرائي.. ذُقْ جزاءَ مراجعتك هذه؛ وإن لم أُراجعهم قال أهل الدنيا: أنت لاتعترف بنا.. فلتبقَ إذن في شدةٍ وضيق.

السبب السابع: من المعلوم أن وظيفة أيِّ موظَّفٍ تتمثل في دعم من ينفع المجتمع، وفي عدم إفساح المجال لمن يُلحِق الضرر به؛ وواقع الحال أنني بينما كنت ذاتَ مرةٍ أوضِّح لضيفٍ عجوزٍ قد شارف على باب القبر ذوقًا لطيفًا من أذواق الإيمان في حكمةِ «لا إله إلا الله»، إذْ أتى الموظف الذي يراقبني وكأنه قبض عليَّ بالجرم المشهود مع أنه لم يأتِني منذ زمن بعيد، فَحَرَمَ ذلك المسكينَ الذي كان يصغي إليَّ بإخلاص، وأثار حفيظتي؛ هذا في الوقت الذي كان هنا أشخاصٌ تافهون لا يعيرهم أهمية، فلمَّا صدرتْ منهم تصرُّفاتٌ تُنافي الأدب وتُسمِّم الحياة الاجتماعية في القرية أخذ يوليهم الاهتمام والتقدير!!

ومعلومٌ كذلك أنه لو كان في السجن رجلٌ ارتكب مئةَ جريمة، لم يكن في هذا ما يمنعه من اللقاء في أيِّ وقتٍ بالموظَّفَ المكلَّف بحراسته ضابطًا كان أو جنديًّا، والحال أنه خِلال عامٍ كاملٍ مرَّ بجوار غرفةِ توقيفي على نحوٍ متكررٍ ضابطٌ رفيع المستوى، وموظفان من ذوي الشأن في الحكومة الوطنية، فما التقَوا بي مرةً، ولا سألوا عن حالي قط، وكنت أولَ الأمر أظن أنهم يجتنبونني عداوةً، ثم تبين لي فيما بعد أن المخاوف قد استولت عليهم، فهم يَفِرُّون مني كأنما سأبتلعهم!! ألا إنه ليس من العقل الاعترافُ بحكومةٍ ومراجعتُها وفيها موظَّفون وأعضاء أمثال هؤلاء، فما مراجعتُهم إلا ذِلَّةٌ لا جدوى منها؛ ولو كان «سعيدٌ القديم» موجودًا لقال مثلما قال عنترة:

ماءُ الحياةِ بِذِلَّةٍ كَجَهَنَّمٍ

وجَهَنَّمٌ بالعِزِّ أفخرُ منزلِ

ولكن «سعيدًا القديم» غير موجود، أما «سعيد الجديد» فيرى أنه لا معنى للحديث مع أهل الدنيا، بل يقول: تبًّا لدنياهم.. فليفعلوا ما يشاؤون.. سنتحاكم في المحكمة الكبرى؛ ويَصمُت.