690

بآلاف الألسنة بدلًا من لسانٍ واحد.. لا جَرَمَ أن القبر خيرٌ له مئة مرةٍ من هذا السجن، ولا جَرَمَ أيضًا أن هذا السجن أجدى نفعًا وأعظم راحةً له من إطلاقِ سراحٍ مقيَّدٍ بالقيود والتحكُّمات في الخارج.

ذلك أنه بدلًا من أن يعاني بمفرده تحكُّمَ مئاتِ الموظفين المعنيِّين خارج السجن، يُضطر لأن يعاني داخله مع مئات المساجين تحكُّمًا يسيرًا مبنيًّا على المصلحة، يُصدِره شخصٌ أو اثنان كالمدير ورئيس الحرس؛ ويَلقى في المقابل الملاطفة والسُّلوان الأخويَّ من أصحابٍ كُثْر، كما يلقى الرحمة بالشيوخ التي تنبع في هذه الحال من الرأفة الإسلامية والفطرة الإنسانية، فتُبدِّل عُسر السجن يُسرًا؛ فلأجل هذا كلِّه رضيت بالسجن.

وحين أتيتُ إلى جلسةِ هذه المحكمة الثالثة [كانت المحكمة الأولى بـ«أسكي شَهِر»، والثانية بـ«دَنِزْلي»؛ هـ ت] تعبتُ من الوقوف على قدميَّ لضعفي وشيخوختي ومرضي، فجلستُ على كرسيٍّ صغيرٍ خارج قاعة المحكمة، وفجأةً جاء أحد القضاة، فلما شاهد ذلك غضب وقال بفظاظةٍ: لماذا لا ينتظر هذا واقفًا على قدميه؟! فانزعجتُ من هذه القسوة لشيخوختي، ثم التفتُّ فإذا جمعٌ غفيرٌ من المسلمين قد تجمهروا حولنا فلم يبرحوا المكان، وهم ينظرون بعيونٍ ملؤها الرأفة والرحمة والأُخوَّة، وفجأةً أُخطِرَتْ حقيقتان:

أُولاهما أن أعدائي وأعداءَ النور العاملين في الخفاء ضَلَّلوا بعضَ المسؤولين الرسميين البسطاء، ودفعوهم للقيام بمثل هذه المعاملة المُهينة للحطِّ من شأني في نظر الناس، ظَنًّا منهم أنهم بِكسرهم إقبالَ العامَّةِ الذي لم أطلبه يَسُدُّون الطريق على فتوحات النور؛ لكنْ بإزاء هذا جاءت العناية الإلهية إكرامًا في مقابل خدمة الإيمان التي تؤديها الأنوار، وقالت: اُنظر إلى هؤلاء الأشخاص المئة بدلًا من النظر إلى إهانة ذلك الشخص الواحد، فإنهم يستقبلونك ويودعونك بعيونٍ ملؤها الرأفةُ والتعاطفُ والحفاوةُ مُقدِّرين الخدمة التي تقوم بها.