569

لقد حاز النُّورْسِيّ قصَبَ السبْق في شتى أنواع الكمالات غير المحدودة التي أدرجها الحقُّ سبحانه في الماهية الإنسانية؛ تجده في بعض الأحيان يتجول بمفرده بين الصخور على قمم الجبال الشاهقة ويتنقل بينها بصمت، وتجده أحيانًا أخرى يتأمل متفكِّرًا في الكروم والبساتين والنباتات والحيوانات، ثم يعود إلى المدينة حاملًا بين جنبيه حالةً روحيةً خفَّاقة قادرةً على إلقاء أبلغ الكلمات الأخلاقية والأدبية والخُطَب العقلانية في أهم الاجتماعات السياسية، وإن حياته في الشرق قبل عهد الحرية وبعدها، وكذا حياته الصاخبة في اسطنبول تشهد على هذا بوضوح؛ فبينما تجده حينًا في شرقيِّ الأناضول يجول بين عشائرها ويلقي عليها دروسه الإيمانية ونصائحه الأخلاقية، تجده حينًا آخر في دمشق بين علمائها وأعلامها يُرْسِي دعائم نهضةِ المسلمين وأُسسَ رُقيِّهم من منظور السياسة الإسلامية، ويبيِّنها ببصيرةٍ نافذةٍ وتشخيصٍ دقيق، ويُخبِر عن الفجر الصادق لسعادة ثلاثمئةٍ وخمسين مليون مسلم، [عدد المسلمين في العالَم في ذلك الحين، أي في مطلع القرن العشرين؛ هـ ت] ثم يأتي في عهد المَشْروطِيّة فينادي الأمة الإسلامية بأعلى صوته، عبر خُطَبه في مجلس المبعوثين ومقالاته في الصحف، بأن إقرار الدستور القرآني القدسي والعمل به سيكفُل للأمة سعادة الدارَين، وسيكون منطلق نهضتها ورقيِّها، ثم يدافع عن أفكاره هذه بكل بطولةٍ في المحاكم العسكرية العرفية.

إن هذه النُّبذة اليسيرة التي أوردناها عن أحوال هذا الشخص الفريد والخدمات التي قام بها تُبيِّن أنه كان رجلًا بأمَّة، فلقد اجتمعت فيه الكمالات والمحاسن التي نراها عند ذوي الإيمان الراسخ والعقل الراجح الذين زَيَّنوا ثلاثةَ عشر قرنًا باعتبارهم ثمراتِ شجرةِ الإسلام النورانية وأزهارَها، حتى لكأن العلوم والمعارف الإسلامية بعد اندثارها في هذه الأصقاع قد أُحييتْ على يديه من جديد.