647

وبينما أنا في هذه الحال، إذا بحسِّياتي المشتاقة إلى الحياة الدنيوية، ونفسي الغافلة الجزعة، تنتهز الفرصة فتعترض على نفسي التي سَئِمتْ حياة الضيق والمرض وراحت تطلب أذواقًا ومُتَعًا باقيةً فيما هو فانٍ، وتعترض كذلك على قلبي الذي نفر من الدنيا، وقرر الذهاب إلى البرزخ شوقًا لرؤية تسعين بالمئة من أصحابه هناك، وإذا بنور الإيمان الساري في الحسِّيات والعروق يَرُدُّ على ذلك الاعتراض مبينًا أنه ما دام التراب ستارًا لرحمةٍ لا حدَّ لها، إذْ هو بجهته المادية مَظهَرٌ لكل هذا الجمال والرحمة والحياة والزينة، وما دام الداخل فيه لا يُترَك سدًى، فلا ريب أن المركز المعنوي الذي تنبعث منه كلُّ هذه الزينة والمحاسن الظاهرية المادية، وكلُّ هذا الحسن والجمال والرحمة والحياة، إنما يثوي خلف ستار التراب هذا وتحته، كما تثوي بعضُ مَعاملها المنتِجة لها.

ولا ريب أن الدخولَ تحت أطباق التراب الذي هو أُمُّنا الرؤوم، واللجوءَ إلى أحضانها، ومشاهدةَ تلك الأزهار الحقيقية الدائمة المعنوية، لَهُو الأجدر بالمحبة والأولى بالاشتياق.

وعندها أزال نورُ الإيمان ودَفَعَ ببيانه هذا كلَّ اعتراضٍ أثارتْه تلك الحسِّيات العمياء ونفسي الولوعةُ بالدنيا، وحملها على أن تردد: الحمد لله على نور الإيمان من كل وجه.

سعيد النُّورْسِيّ

***