654

يعلم المطلعون على حياتي أنني حين كنت في العشرينات من عمري قبل خمسٍ وخمسين سنة، أقمتُ سنتَين بـ «بِتْليس»، في دار واليها المرحوم «عمر باشا»، لإصراره واحترامه الشديد للعلم.

كان له ستُّ بنات، ثلاثٌ صغيراتٌ وثلاثٌ كبيرات، وعلى الرغم من أننا عشنا معًا في دارٍ واحدةٍ مدة سنتين إلا أنني لم أكن أعرف الثلاث الكبيرات معرفةً أميز بها إحداهن من الأخرى، ولم أكن أدقق فيهن حتى أعرفهن؛ حتى لقد حصل أن نزل أحد العلماء ضيفًا عليّ، فعرفهن وميَّزهن خلال يومين فقط، فعجِبَ مَن حولي لأمري وسألوني: لِمَ لا تنظر؟ وكنت أقول: صونُ عزة العلم يمنعني من النظر.

وفي اسطنبول قبل أربعين سنة، وفي اليوم المحدد لمهرجان «كاغد خانه»، انتشرت الآلاف من نساءِ اسطنبول وفتياتِها ونساءِ الرومِ والأرمنِ كاسياتٍ عارياتٍ على طرفي الخليج من الجسر حتى «كاغد خانه»، وفي تلك الأثناء رَكِبنا قاربًا أنا والمرحوم «مُلَّا سيد طه» و«حاجي إلياس»، وكانا من أعضاء البرلمان في ذلك الحين، فكنا نمرُّ بالقرب من تلك النساء، والحال أنهما كانا قد اتفقا على اختباري وتناوبا على مراقبتي دون علمٍ مني بذلك، وبعد أن انتهت جولتنا التي استغرقت ساعةً من الوقت اعترفا لي قائلَين: لقد عجِبْنا لأمرك!! لَمْ تنظر إليهن مطلقًا!! فقلتُ: لا أريد مُتَعًا تافهةً زائلةً آثمةً عاقبتُها آلامٌ وحسرات.

ثم إن كل من تربطه بي أواصر الصداقة يعلم أنني اجتنبتُ طَوالَ حياتي قبولَ الهدايا والدخولَ تحت مِنَّة الناس بأخْذِ صدقاتهم وإحساناتهم؛ وأنني -حفاظًا على شرفِ وسلامة الأنوار والخدمة الإيمانية القرآنية- تركتُ جميع ما في الدنيا من لذائذَ واهتماماتٍ ماديةٍ واجتماعيةٍ وسياسية، ولم أُبالِ بتهديداتِ الحاقدين بما فيها الإعدام، وهذا ما تبيَّن بجَلاءٍ في المحاكم التي دخلتُها وفي السجنَين الرهيبَين اللذَين سُجِنتُ فيهما خلال العشرين سنةً من أَسري المشحون بالعسف والأذى.