597

وثمة سببٌ آخر من الأسباب الكثيرة لاجتنابنا التياراتِ السياسية، ألا وهو الشفقة وتحاشي الظلم والإضرار، وهو أحد الأساساتِ الأربعة لرسائل النور؛ [أسس رسائل النور أربعة، هي: العجز والفقر والتفكر والشفقة، يراجع تفصيلها في «ذيل الكلمة السادسة والعشرين»، وفي «المكتوب التاسع والعشرين»، في ذيل القسم التاسع منه؛ هـ ت] فقد هيمنَ الظلم الشديد في هذه الأيام مصداقًا لقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب:72]، وبات هو السائدَ بدلًا من دستور الإرادة الإلهية القائل: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾ [الإسراء:15]، أي إن المرء لا يؤاخَذ ولا يؤخَذ بجريرةٍ ارتكبها غيرُه أو قريبُه.

وإن الذي يتصرف وفق ما تمليه عليه مشاعر التحيُّز والتحزُّب، لا يُعادي بجريرةِ المجرم أقرباءَ المجرم فحسب، بل يعادي جماعتَه كلَّها، ولو أمكنه أن يُنزِل بهم ظلمًا لفعل، ولو كانت السُّلطة بيده لقَصَف قريةً بجريرةِ رجلٍ واحد؛ مع أنه لا يجوز أن يُضحَّى بحقِّ رجلٍ بريءٍ واحدٍ أو يُظلَم ولو بسببِ مئةِ مجرم؛ بينما الوضع الحالي يَزُجُّ بمئة بريءٍ في المهالك بسبب بضعة مجرمين؛ كأنْ يرتكب رجلٌ جريرةً، فيَطولَ القمعُ أبويه الشيخَين الكبيرَين اللذَين لا حول لهما ولا قوة، وأطفالَه وعيالَه الأبرياء المساكين، ويُشرَّدوا ويُناصَبوا العَداء تحيُّزًا وتحزُّبًا!! فهذا منافٍ لمبدأ الشفقة، ولا يمكن لأمثالِ هؤلاء الأبرياء أن ينجوا من الظلم بوجود التيارات المتحزِّبة بين المسلمين، خصوصًا وأن الأوضاع التي تُسبِّب قيام الثورات والاضطرابات تَنشُر الظلم وتوسِّع دائرتَه.

فإذا حصل ذلك في الجهاد الديني كانت حالُ أبناء الكفار كحال آبائهم، فيمكن أن يقعوا غنيمةً أو يدخلوا في مُلك المسلمين، أما إنْ وُجِد ملحدٌ بين المسلمين فلا يجوز بوجهٍ من الوجوه تملُّك أبنائه أو الاعتداء على حقوقهم، لأنهم مرتبطون برابطة الإسلام وجماعة المسلمين لا برابطة أبيهم الملحد، أما أبناء الكفار فإنهم وإن كانوا من أهل النجاة، إلا أنهم لما كانوا تابعين لآبائهم ومرتبطين بهم في الحقوق وفي الحياة، جاز في الجهاد أن يقعوا أسرى ويُستَرَقُّوا.