681

وإنه لمن المؤسف حقًا أن نرى مثل هذا الرجل العلَّامةِ الفذِّ الذي نهض بأقدس خدمةٍ إيمانيةٍ لوطننا وشعبنا وشبابنا بل للعالَم الإسلامي برمته، والذي قدَّم مؤلفاتٍ رائعةً جليلةً تلبي الحاجة المعنوية للبشر.. أن نراه يُساق من محكمةٍ إلى أخرى، وتُواريه غياهب السجون.

وإذا كان بديع الزمان قد لقي من العسفِ والأذى ما لقي خلال عشرين سنةً مضَتْ، فإن سنوات سجن «أفيون» هذه لم تكن إلا استمرارًا لتلك المعاناة مع مزيدٍ من الشدة والإجحاف الذي يُذكِّر بما لقيه علماء الأمة على امتداد تاريخها، حتى إن الأذى الذي كان يلقاه في يومٍ واحدٍ في «أفيون» كان يَعدِل نظيرَه في شهرٍ من سجن «دَنِزْلي»؛ لقد عومِل معاملةً غير قانونيةٍ على الإطلاق، وتُرك وحيدًا طَوالَ عشرين شهرًا في مَهجعٍ مُهمَلٍ شديدِ البرودة في الشتاء، على أمل أن يقضي عليه الموتُ، وسُمِّم في أشدِّ أيام الشتاء القارس حين كان الصقيع يكسو النوافذ، فظلَّ هذا الرجل المريض الطاعن في السن يقاسي الآلام شهورًا، ولم يُسمَح لأحدٍ من طلابه أن يقوم على رعايته حتى عندما أمسى طريح الفراش لا يقدر على الحراك، فقد كان المطلوب أن يموت في ظل هذه الظروف القاسية؛ ولقد عانى من هذا التسمم معاناةً منعتْه من تناول الطعام أيامًا عدةً، فبقي طاويًا حتى بلغ منه الهُـزال مبلغَه.

وعلى الرغم من أنه كان تحت رقابةٍ وتضييقٍ شديدَين، إلا أنه لم ينقطع عن تأليف رسائل النور، فقد ألَّف بعضَها سِرًّا كما هو دأبه في كلِّ سجنٍ دخله، واستطاع المساجين نسخَها كتابةً بأيديهم وإيصالَها إلى خارج السجن، فلم تتوقف عمليةُ نشر الرسائل حتى حين كان بديع الزمان في السجن، ولقد نجح طلاب النور -أمثال بطلِ النور «خُسرو»- في أن ينشروا سِرًّا مئاتِ آلاف النُّسَخ مكتوبةً بخط اليد وبالحروف العربية.

وحين كان الأستاذ طريحَ الفراش في السجن يخيِّم عليه الموت من أثر السُّم، تحدَّث إلى طالبٍ سنحت له فرصةُ لقائه قائلًا: لعلي أفارق الحياة عمَّا قريب.. فإنْ أنا مِتُّ فلا ينتقمْ أصحابي لي.. لأكُنْ بكلِّ كياني فداءً للسعادة والرفاه الأبديَّين للوطن والشعب والشباب، ولعالَم الإسلام والبشرية.