ذهاب الأستاذ إلى «بارلا»

كان الأستاذ قد غادر «بارلا» قبل عشرين سنة ولم يعُد لزيارتها منذ ذلك الحين؛ والحق أن علاقة الأستاذ بـ«بارلا» أوثق من علاقته بمسقط رأسه «نُورْس»، ففي «بارلا» بدأت حياتُه المعنوية بتأليف رسائل النور، ومن «بارلا» انتشرت «الكلمات» و«المكتوبات» و«اللمعات» التي تُمثِّل أنوار هداية القرآن الحكيم، وبهذا الاعتبار تُعدُّ «بارلا» أول مركزٍ لمدارس رسائل النور.

وبالرغم من أن حياة الأستاذ بها كانت مريرةً قضاها في أجواء نفيٍ وعزلةٍ ومراقبةٍ وتشديد، إلا أنه يمكن اعتبارها في الوقت نفسه أجمل لحظات حياته وأمتعها، إذ هي المرحلة التي أُلِّفت فيها حقائق رسائل النور.

وفي هذه المرة ذهب الأستاذ إليها بمحض إرادته ورغبته غيرَ منفيٍّ ولا مسجون.. توجه إليها في يومٍ ربيعيٍّ جميل، واستقبله هناك عددٌ من خُلَّص طلابه فيها، وما إن أصبح على مقربةٍ من المدرسة النورية التي أقام بها ثماني سنوات حتى انهمر الدمع من عينيه ولم يتمالك نفسه، وبَدَت شجرة الدَّلب الضخمة وكأنها ترحب بمَقدَمه.. وعادت الذكرى إلى ما قبل سنين طويلةٍ خَلَتْ.. إلى لحظةِ ترحيله منها بعد إقامةٍ دامت ثماني سنوات.. يومها وقفت شجرة الدَّلب نفسُها حزينةً تودِّعه بأغصانها الممتدة كأذرعٍ في لحظةِ فِراق.. وها هي اليوم تستقبله فرحةً مسرورةً بعد طول غياب.. بدت هذه الشجرة المباركة وكأنها مستغرقةٌ في سجدة شكرٍ لخالقها.. اقترب الأستاذ منها وعانقها وهو لا يتمالك دموعه.. وطلب من التلاميذ والأهالي أن يتركوه وحدَه.. وبعد ذلك دخل إلى غرفته في المدرسة النورية، وبقي فيها قرابة الساعتين وصوتُ نشيجه يُسمَع من الخارج.