الكلمة الخامسة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ(النحل:128)

إذا أردت أن ترى أن إقامة الصلاة واجتناب الكبائر وظيفة حقيقية تليق بالإنسان ونتيجة فطرية ملائمة مع خلقته.. فتأمل في هذه الحكاية التمثيلية القصيرة واستمع إليها:

كان في الحرب العالمية الأولى، وفي أحد الأفواج، جنديان اثنان: أحدهما مدرَّب على مهمته مجدّ في واجبه. والآخر جاهل بوظيفته متّبعٌ هواه. كان المتقن واجبه يهتم الاهتمام كله بأوامر التدريب وشؤون الجهاد. ولم يكن ليفكر قط بلوازم معاشه وأرزاقه، حيث أنه أدرك يقينًا أن إعاشته ورعاية شؤونه وتزويده بالعتاد بل حتى مداواته إذا تمرض بل حتى وضع اللقمة -إذا احتاج الأمر- في فمه، إنما هو من واجب الدولة. وأما واجبه الأساس فهو التدّرب على أمور الجهاد ليس إلاّ، مع علمه أن هذا لا يمنع من أن يقوم بشؤون التجهيز وبعض أعمال الإعاشة كالطهي وغسل المواعين، وحتى في هذه الأثناء لو سُئل: ماذا تفعل؟ لقال: إنما أقوم ببعض واجبات الدولة تطوّعًا، ولا يجيب: إنني أسعى لأجل كسب لوازم العيش.

أما الجندي الآخر، الجاهل بواجباته فلم يكن ليبالي بالتدريب ولا يهتم بالحرب. فكان يقول: ذلك من واجب الدولة، وما لي أنا؟! فيشغل نفسه بأمور معيشته ويلهث وراء الاستزادة منها حتى كان يَدَع الفوج ليزاول البيع والشراء في الأسواق.

قال له صديقه المجدّ ذات يوم:

– يا أخي!! إن مهمتك الأصلية هي التدرّب والاستعداد للحرب، وقد جئ بك إلى هنا من أجل ذلك؛ فاعتمد على السلطان واطمئن إليه في أمر معاشك، فلن يَدَعَك جائعًا، فذلك واجبُه ووظيفته. ثم إنك عاجز وفقير لن تستطيع أن تدير أمور معيشتك بنفسك، وفوق هذا فنحن في زمن جهاد وفي ساحة حرب عالمية كبرى، أخشى أنهم يعدّونك عاصيًا لأوامرهم فينزلون بك عقوبة صارمة.

نعم؛ إن وظيفتين اثنتين تبدوان أمامنا:

أحداهما: وظيفة السلطان، وهي قيامه باعاشتنا. ونحن قد نُستخدم مجانًا في إنجاز تلك الوظيفة.

وأُخراهما: هي وظيفتنا نحن، وهي: التدريب والاستعداد للحرب، والسلطان يقدّم لنا مساعدات وتسهيلات لازمة.

فيا أخي تأمل لو لم يُعِر الجندي المهمِل سمعًا لكلام ذلك المجاهد المدرَّب كم يكون خاسرًا ومتعرضًا للأخطار والتهلكة؟!

فيا نفسي الكسول!!

إن تلك الساحة التي تمور مورًا بالحرب هي هذه الحياة الدنيا المائجة.. وأمّا ذلك الجيش المقسم إلى الأفواج فهو الأجيال البشرية.. وأمّا ذلك الفوج نفسه فهو المجتمع المسلم المعاصر.. وأمّا الجنديان الاثنان؛ فأحدهما هو العارف بالله والعامل بالفرائض والمجتنب الكبائر، وهو ذلك المسلم التقي الذي يجاهد نفسه والشيطان خشية الوقوع في الخطايا والذنوب.. وأما الآخر: فهو الفاسق الخاسر الذي يلهث وراء هموم العيش لحد إتهام الرزاق الحقيقي، ولا يبالي في سبيل الحصول على لقمة العيش أن تفوته الفرائض وتتعرض له المعاصي.. وأما تلك التدريبات والتعليمات، فهي العبادة وفي مقدمتها الصلاة.. وأما تلك الحرب فهي مجاهدة الإنسان نفسه وهواه، واجتنابه الخطايا ودنايا الأخلاق، ومقاومته شياطين الجن والإنس، إنقاذًا لقلبه وروحه معًا من الهلاك الأبدي والخسران المبين.

وأما تانك الوظيفتان الإثنتان؛ فأحداهما منح الحياة ورعايتها. والأخرى عبادة واهب الحياة ومربيها والسؤال منه والتوكل عليه والاطمئنان إليه.

أجل! إن الذي وهب الحياة؛ وأنشأها صنعةً صمدانية معجزة تتلمع، وجعلها حكمةً ربانية خارقة تتألق، هو الذي يربيها، وهو وحده الذي يرعاها ويديمها بالرزق.

أوَ تريد الدليل؟!

إن أضعف حيوان وأبلده ليُرزَق بأفضل رزق وأجوده (كالأسماك وديدان الفواكه). وإن أعجز مخلوق وأرقه ليأكل أحسن رزق وأطيبه (كالأطفال والصغار).

ولكي تفهم أن وسيلة الرزق الحلال ليست الاقتدار والاختيار، بل هي العجز والـضعف، يكفيك أن تعقد مقارنه بين الأسماك البليدة والثعالب، وبين الصغار الذين لا قوة لهم والوحوش الكاسرة، وبين الأشجار المنتصبة والحيوانات اللاهثة.

فالذي يترك صلاته لأجل هموم العيش مَثَـلُهُ كمثل ذلك الجندي الذي يترك تدريبه وخندقه ويتسوّل متسكعًا في الأسواق. بينما الذي يقيم الصلاة دون أن ينسى نصيبه من الرزق، يبحث عنه في مطبخ رحمة الرزاق الكريم لئلا يكون عالةً على الآخرين فجميل عمله، بل هو رجولة وشهامة، وهو ضرب من العبادة أيضًا.

ثم إن فطرة الإنسان وما أودع الله فيه من أجهزة معنوية تدلاّن على أنه مخلوق للعبادة؛ لأن ما أودع فيه من قدرات وما يؤديه من عمل لحياته الدنيا لا تبلغه مرتبة أدنى عصفور -الذي يتمتع بالحياة أكثر منه وأفضل- بينما يكون الإنسان سلطان الكائنات وسيد المخلوقات من حيث حياته المعنوية والأخروية بما أودع الله فيه من علم به وافتقار إليه وقيام بعبادته.

فيا نفسي!

إن كنت تجعلين الحياة الدنيا غاية المقصد وافرغت في سبيلها جهدك فسوف تكونين في حكم أصغر عصفور.

اما إن كنت تجعلين الحياة الأخرى غاية المنى وتتخذين هذه الحياة الدنيا وسيلة لها ومزرعة، وسعيتِ لها سعيها.. فسوف تكونين في حكم سيد الأحياء والعبد العزيز لدى خالقه الكريم وستصبحين الـضيف المكرم الفاضل في هذه الدنيا.

فدونك طريقان اثنان، فاختاري أيّما تشائين.

واسألي الرب الرحيم الهداية و التوفيق.