* الصورة الأولى

أمن الممكن لسلطنةٍ -ولاسيما كهذه السلطنة العظمى- أن لا يكون فيها ثوابٌ للمطيعين ولا عقاب للعاصين؟.. ولما كان العقاب والثواب في حكم المعدوم في هذه الدار، فلابد إذن من محكمةٍ كبرى في دارٍ أخرى.

* الصورة الثانية

تأمل سير الأحداث والإجراءات في هذه المملكة، كيف يوزَّع الرزقُ رغدًا حتى على أضعف كائن فيها وأفقره، وكيف أن الرعاية تامة والمواساة دائمة لجميع المرضى الذين لا معيل لهم. وانظر إلى الأطعمة الفاخرة والأواني الجميلة والأوسمة المرصعة والملابس المزركشة. فالموائد العامرة مبثوثة في كل مكان.. وانظر! الجميع يتقنون واجباتهم ووظائفهم إلا أنت وأمثالك من البلهاء، فلا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، فأعظم شخص يؤدي ما أنيط به من واجب بكل تواضع، وفي غاية الطاعة، تحت ظل جلال الهيبة والرهبة. إذن فمالِكُ هذه السلطنة ومليكها ذو كرم عظيم، وذو رحمة واسعة، وذو عزة شامخة، وذو غيرة جليلة ظاهرة، وذو شرف سامٍ. ومن المعلوم أن الكرم يستوجب إنعامًا، والرحمة لا تحصل دون إحسان، والعزة تقتضي الغيرة، والشرف السامي يستدعي تأديب المستخفين، بينما لا يتحقق في هذه المملكة جزءً واحدًا من ألفٍ مما يليق بتلك الرحمة ولا بذلك الشرف. فيرحل الظالم في عزته وجبروته ويرحل المظلوم في ذله وخنوعه. فالقـضية إذن مؤجلة إلى محكمة كبرى.

* الصورة الثالثة

انظر، كيف تُنجز الأعمال هنا بحكمة فائقة وبانتظام بديع، وتأمل كيف يُنظر إلى المعاملات بمنظار عدالةٍ حقة وميزانٍ صائب. ومن المعلوم أن حكمة الحكومة وفطنتها هي اللطف بالذين يحتمون بحماها وتكريمهم. والعدالة المحضة تتطلب رعاية حقوق الرعية، لتصان هيبة الحكومة وعظمة الدولة.. غير أنه لا يبدو هنا إلا جزءٌ ضئيلٌ من تنفيذ ما يليق بتلك الحكمة، وبتلك العدالة. فأمثالك من الغافلين سيغادرون هذه المملكة دون أن يرى أغلبهم عقابًا.

فالقـضية إذن مؤجلة بلا ريب إلى محكمة كبرى.

* الصورة الرابعة

انظر إلى ما لا يعد ولا يحصى من الجواهر النادرة المعروضة في هذه المعارض، والأطعمة الفريدة اللذيذة المزيّنة بها الموائد، مما يُبرز لنا أن لسلطان هذه المملكة سخاءً غير محدود، وخزائن ملأى لا تنضب.. ولكن مثل هذا السخاء الدائم، ومثل هذه الخزائن التي لا تنفد، يتطلبان حتمًا دار ضيافة خالدة أبدية، فيها ما تشتهيه الأنفس. ويقتضيان كذلك خلود المتنعمين المتلذذين فيها، من غير أن يذوقوا ألم الفراق والزوال؛ إذ كما أن زوال الألم لذة فزوال اللذة ألم كذلك.. وانظر إلى هذه المعارض، ودقق النظر في تلك الإعلانات، واصغ جيدًا إلى هؤلاء المنادين الدعاة الذين يصفون عجائب مصنوعات السلطان -ذي المعجزات- ويعلنون عنها، ويظهرون كماله، ويفصحون عن جماله المعنوي الذي لا نظير له، ويذكرون لطائف حسنه المستتر.

فلهذا السلطان إذن كمال باهر، وجمال معنوي زاهر، يبعثان على الإعجاب. ولاشك أن الكمال المستتر الذي لا نقص فيه يقتضي إعلانه على رؤوس الأشهاد من المعجبين المستحسنين، ويتطلب إعلانه أمام أنظار المقدّرين لقيمته. أما الجمال الخفي الذي لا نظير له، فيستلزم الرؤية والإظهار، أي رؤية جماله بوجهين.

أحدهما: رؤيته بذاته جمالَه في كل ما يعكس هذا الجمال من المرايا المختلفة.

ثانيهما: رؤيته بنظر المشاهدين المشتاقين والمعجبين المستحسنين له. وهذا يعني أن الجمال الخالد يستدعي رؤية وظهورًا، مع مشاهدةٍ دائمةٍ، وشهودٍ أبدي.. وهذا يتطلب حتمًا خلودَ المشاهدين المشتاقين المقدّرين لذلك الجمال، لأن الجمال الخالد لا يرضى بالمشتاق الزائل. ولأن المشاهد المحكوم عليه بالزوال يبدل تصور الزوال محبته عداءً، وإعجابه استخفافًا، وتوقيره إهانةً، إذ الإنسان عدو لما يجهل ولما يقصر عنه.. ولما كان الجميع يغادرون دور الضيافة هذه بسرعة ويغيبون عنها بلا ارتواء من نور ذلك الجمال والكمال، بل قد لا يرون إلا ظلالًا خافتة منه عبر لمحات سريعة..

فالرحلة إذن منطلقة إلى مشهد دائم خالد.

* الصورة الخامسة

تأمل، كيف أن لهذا السلطان -الذي لا نظير له- رأفة عظيمة تتجلى في خضم هذه الأحداث والأمور، إذ يغيث الملهوف المستغيث، ويستجيب للداعي المستجير، وإذا ما رأى أدنى حاجة لأبسط فرد من رعاياه فإنه يقضيها بكل رأفة وشفقة، حتى إنه يرسل دواءً أو يهيئ بيطارًا لإسعاف قدم نعجة من النعاج.

هيا بنا يا صاحبي لنذهب معًا إلى تلك الجزيرة، حيث تضم جمعًا غفيرًا من الناس. فجميع اشراف المملكة مجتمعون فيها.. انظر فها هو ذا مبعوث كريم للسلطان متقلّد اعظم الأوسمة وأعلاها يرتجل خطبة يطلب فيها من مليكه الرؤوف أمورًا، وجميع الذين معه يوافقونه ويصدّقونه ويطلبون ما يطلبه.

أنصت لما يقول حبيب الملك العظيم، إنه يدعو بأدبٍ جم وتضرّع ويقول:

يا من اسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يا سلطاننا، أرنا منابع واصولَ ما أريتَه لنا من نماذج وظلال.. خذ بنا إلى مقر سلطنتك ولا تهلكنا بالـضياع في هذه الفلاة.. أقبلنا وارفعنا إلى ديوان حـضورك.. ارحمنا… اطعمنا هناك لذائذ ما أذقتنا إياه هنا، ولا تعذبنا بألم التنائي والطرد عنك.. فهاهم أولاء رعيتك المشتاقون الشاكرون المطيعون لك، لا تتركهم تائهين ضائعين، ولا تفنِهم بموت لا رجعة بعده..

أسمعت يا صاحبي ما يقول؟. تُرى أمن الممكن لمن يملك كل هذه القدرة الفائقة، وكل هذه الرأفة الشاملة، أن لا يعطي مبعوثه الكريم ما يرغب به، ولا يستجيب لأسمى الغايات وأنبل المقاصد؟ وهو الذي يقضي بكل اهتمامٍ أدنى رغبة لأصغر فرد من رعاياه؟ مع أن ما يطلبه هذا المبعوث الكريم تحقيق لرغبات الجميع ومقاصدهم، وهو من مقتضيات عدالته ورحمته ومرضاته. ثم إنه يسير عليه وهيّن، فليس هو بأصعب مما عرضه من نماذج في متنزهات هذه المملكة ومعارضها.. فما دام قد أنفق نفقات باهظة وأنشأ هذه المملكة لعرض نماذجه عرضًا مؤقتًا، فلابد أنه سيَعرِض في مقر سلطنته من خزائنه الحقيقية ومن كمالاته وعجائبه ما يبهر العقول. إذن فهؤلاء الذين هم في دار الامتحان هذه ليسوا عبثًا، وليسوا سدى، بل تنتظرهم قصورُ السعادة السرمدية الخالدة، أو غياهب السجون الأبدية الرهيبة.

* الصورة السادسة

تعال، وانظر إلى هذه القاطرات الضخمة، وإلى هذه الطائرات المشحونة، وإلى هذه المخازن الهائلة المملوءة، وإلى هذه المعارض الأنيقة الجذابة.. وتأمل في الإجراءات وسير الأمور.. إنها جميعًا تبيّن أن هناك سلطنة عظيمة حقًا (حاشية) فكما أن الجيش الهائل في ميدان المناورات أو مباشرة الحرب، يتحول إلى ما يشبه غابة أشواكٍ، بمجرد تسلّمه أمرَ: «خذوا السلاح، ركّبوا الحِراب». وكما يتحول المعسكر برمّته في كل عيد وعرض عسكري إلى ما يشبه حديقة جميلة ذات أزهار ملونة بمجرد تسلمه أمر: احملوا شاراتكم، تقلّدوا أوسمتكم.. كذلك النباتات غير ذات الشعور والتي هي نوع من جنود غير متناهية لله سبحانه كما أن الملائكة والجن والإنس والحيوان جنوده فهي عندما تتسلم أمر ﴿كُنْ فَيَكُونُ﴾ أثناء جهادها لحفظ الحياة وتؤمر بالأمر الإلهي «خذوا أسلحتكم وعتادكم لأجل الدفاع» تهيء الأشجارُ والشجيرات المشوكة رميحاتها، فيتحول سطح الارض إلى مايشبه المعسكر الضخم المدجج بالسلاح الأبيض فكل يوم من أيام الربيع،وكل أسبوع فيه بمثابة عيد لطائفة من طوائف النباتات،فتُظهِر كلُ طائفة منها ما وهّبه لها سلطانها من هدايا جميلة، وما أنعم عليها من أوسمة مرصعة، فتعرض نفسها-بما يشبه العرض العسكري- أمام نظر السلطان الأزلي وأشهاده، كأنها تسمع أمرًا ربانيًا: تقلّدوا مرصعات الصنعة الربانية، وأوسمة الفطرة الإلهية التي هي الأزهار والثمار… وفتّحوا الأزهار. عندئذ يعود سطح الأرض كأنه معسكر عظيم في يوم عيد بهيج، وفي استعراض هائل رائع تزخر بالأوسمة البراقة والشارات اللماعة.

فهذا الحشد من التجهيز الحكيم وهذا المدى من العتاد المنظّم وهذا القدر من التزيين البديع يُري لمن لم يفقد بصره أنه أمر سلطان قدير لا منتهى لقدرته، وأمر حاكم حكيم لا نهاية لحكمته. المؤلف. تحكم من وراء ستار. فمثل هذه السلطنة تقتضي حتمًا رعايا يليقون بها. بينما تشاهد أنهم قد اجتمعوا في هذا المضيف -مضيف الدنيا- والمضيف يودّع يوميًا صنوفًا منهم ويستقبل صنوفًا. وهم قد حضروا في ميدان الامتحان والاختبار هذا، غير أن الميدان يُبدّل كل ساعة، وهم يلبثون قليلًا في هذا المعرض العظيم، يتفرجون على نماذج آلاء المليك الثمينة وعجائب صنعته البديعة، غير أن المعرض نفسه يحوّل كل دقيقة، فالراحل لا يرجع والقابل يرحل كذلك.. فهذه الأمور تبين بشكل قاطع أن وراء هذا المضيف الفاني، ووراء هذه الميادين المتبدلة، ووراء هذه المعارض المتحولة، قصور دائمة خالدة، ومساكن طيبة أبدية وجنائنُ مملوءة بحقائق هذه النماذج، وخزائن مشحونة بأصولها.

فالأعمال والأفعال هنا إذن ما هي إلا لأجل ما أعدّ هنالك من جزاء. فالملك القدير يكلف هنا ويجازي هناك، فلكل فردٍ لون من السعادة حسب استعداده وما أقدم عليه من خير.

* الصورة السابعة

تعال، لنتنزه قليلًا بين المدنيين من الناس لنلاحظ أحوالهم، وما تجري حولهم من أمور. انظر، فها قد نُصبَت في كل زاوية آلاتُ تصوير عديدة تلتقط الصور، وفي كل مكان كتّاب كثيرون يسجّلون كل شئ، حتى أهون الأمور.

هيا انظر إلى ذاك الجبل الشاهق فقد نصبت عليه آلة تصوير ضخمة تخص السلطان نفسه (حاشية) لقد وضح قسم من هذه المعاني التي تشير إليها هذه الصورة في (الحقيقة السابعة). فآلة التصوير الكبرى هنا التي تخص السلطان تشير إلى اللوح المحفوظ، وإلى حقيقته وقد أثبتت الكلمة (السادسة والعشرون) اللوح المحفوظ، وتحقّق وجوده بما يأتي:

كما ان الهويات الشخصية الصغيرة ترمز إلى وجود سجل كبير للهويات، والسندات الصغيرة تُشعر بوجود سجل أساس للسندات. ورشحات قطرات صغيرة وغزيرة تدل على وجود منبع عظيم، فإن القوى الحافظة في الإنسان، واثمار الأشجار، وبذور الثمار كذلك كل منها بمثابة هويات صغيرة، وبمعنى «لوح محفوظ صغير» وبصورةترشحات نقاط صغيرة ترشحت من القلم الذي كتب اللوح المحفوظ الكبير. فلابد أن كلاً منها تشعر بوجود الحافظة الكبرى، والسجل الاكبر، واللوح المحفوظ الأعظم، بل تُثبته وتبرزه إلى العقول النافذة.المؤلف . تلتقط صور كل ما يجري في هذه المملكة. فلقد أصدر السلطان أوامره لتسجيل الأمور كلها، أو تدوين المعاملات في مملكته. وهذا يعني أن السلطان المعظم هو الذي يملي الحوادث جميعها، ويأمر بتصويرها.. فهذا الاهتمام البالغ، وهذا الحفظ الدقيق للأمور، وراءه محاسبة بلا شك، إذ هل يمكن لحاكمٍ حفيظ -لا يهمل أدنى معاملة لأبسط رعاياه- أن لا يحفظ ولا يدوّن الأعمال العظيمة لكبار رعاياه، ولا يحاسبهم ولا يجازيهم على ما صنعوا مع أنهم يُقدمون على أعمال تمسّ الملك العزيز، وتتعرض لكبريائه، وتأباه رحمته الواسعة؟.. وحيث أنهم لا ينالون عقابًا هنا..

فلابد أنه مؤجل إلى محكمة كبرى.

* الصورة الثامنة

تعال، لأتلو عليك هذه الأوامر الصادرة من السلطان. انظر، إنه يكرر وعده ووعيده قائلًا: لآتينّ بكم إلى مقر سلطنتي، ولأسعدنّ المطيعين منكم، ولأزجنّ العصاة في السجن، ولأدمرنّ ذلك المكان الموقت، ولأنشأن مملكة أخرى فيها قصور خالدة وسجون دائمة.. علمًا أن ما قطعه على نفسه من وعد، هين عليه تنفيذه، وهو بالغ الأهمية لرعاياه. أما إخلاف الوعد فهو منافٍ كليًا لعزته وقدرته.

فانظر أيها الغافل: إنك تصدق أكاذيب أوهامك، وهذيان عقلك، وخداع نفسِك، ولا تصدّق مَن لا يحتاج إلى مخالفة الوعد قطعًا، ومَن لا تليق المخالفة بغيرته وعزته أصلًا، ومَن تشهد الأمور كافة على صدقه.. إنك تستحق العقاب العظيم بلاشك، إذ إن مَثلكَ في هذا مثل المسافر الذي يغمض عينيه عن ضوء الشمس، ويسترشد بخياله، ويريد أن ينير طريقه المخيف ببصيص عقله الذي لا يضئ إلا كضياء اليراعة (ذباب الليل).

وحيث أنه قد وعد، فسيفي بوعده حتمًا، لأن وفاءه سهل عليه وهين، وهو من مقتضيات سلطنته، وهو ضروري جدًا، لنا ولكل شئ.

إذن هناك محكمة كبرى وسعادة عظمى.

* الصورة التاسعة

تعال، لننظر إلى رؤساء (حاشية) إن المعاني التي تثبتها هذه الاشارة ستظهر في “الحقيقة الثامنة” فمثلاً: أن رؤوساء الدوائر في هذا المثال ترمز إلى الأنبياء والأولياء. أما الهاتف فهو نسبة ربانية مممتدة من القلب الذي هو مرآة الوحي ومظهر الإلهام وبمثابة بداية ذلك الهاتف وسماعته.المؤلف. من هذه الدوائر، قسم منهم يمكنهم الاتصال بالسلطان العظيم مباشرة، بهاتف خاص. بل لقد ارتقى قسم آخر وسما إلى ديوان قدسه.. تأمل ماذا يقول هؤلاء؟ إنهم يخبروننا جميعًا أن السلطان قد أعدّ مكانًا فخمًا رائعًا لمكافأة المحسنين وآخر رهيبًا لمعاقبة المسيئين. وأنه يَعِد وعدًا قويًا ويُوعِد وعيدًا شديدًا، وهو أجلّ وأعزّ من أن يذلّ إلى خلاف ما وعد وتوعد. علمًا بأن أخبار المخبرين قد وصلت من الكثرة إلى حد التواتر ومن القوة إلى درجة الاتفاق والإجماع فهم يبلغوننا جميعًا: بأن مقر هذه السلطنة العظيمة التي نرى آثارها وملامحها هنا، إنما هو في مملكة أخرى بعيدة. وأن العمارات في ميدان الامتحان هذا بنايات وقتية، وستُبدّل إلى قصور دائمة، فتبدل هذه الأرض بغيرها. لأن هذه السلطنة الجليلة الخالدة -التي تُعرف عظمتُها من آثارها- لا يمكن أن تقتصر هيمنتُها على مثل هذه الأمور الزائلة التي لا بقاء لها ولا دوام ولا كمال ولا قرار ولا قيمة ولا ثبات. بل تستقر على ما يليق بها وبعظمتها من أمور تتّسم بالديمومة والكمال والعظمة.

فإذن هناك دار أخرى.. ولابد أن يكون الرحيل إلى ذلك المقر.

* الصورة العاشرة

تعال يا صاحبي، فاليوم يوم عيد ملكي عظيم (حاشية) سترى ما ترمز عليه هذه الصورة في (الحقيقة التاسعة). فيوم العيد مثلاً إشارة إلى فصل الربيع، أما الفلاة المزدانة بالأزهار فإشارة إلى سطح الأرض في موسم الربيع، أما المناظر والمشاهد المتغيرة في الشاشة، فالمقصود منها انواع ما يخرجه الربيع والصيف من الارزاق الخاصة بالحيوان والإنسان التي يقدّرها الصانع القدير ذو الجلال والفاطر الحكيم ذو الجمال، والذي يغيرها بانتظام كامل ويجدّدها برحمة تامة منه سبحانه، ويرسلها في فترات متعاقبة متتالية ابتداء من أول الربيع الى انتهاء الصيف.المؤلف. ستحدث تبدلات وتغيرات وستبرز أمور عجيبة.. فلنذهب معًا للنزهة، في هذا اليوم البهيج من أيام الربيع إلى تلك الفلاة المزدانة بالأزهار الجميلة.. انظر! هاهم الناس متوجهون إلى هناك.. انظر! هاهنا أمر غريب عجيب، فالعمارات كلها تنهار وتتخذ شكلًا آخر! حقًا إنه شئ معجز! إذ العمارات التي إنهارت قد أعيد بناؤها هنا فورًا، وانقلبت هذه الفلاة الخالية إلى مدينة عامرة! انظر.. إنها تريك كل ساعة مشهدًا جديدًا وتتخذ شكلًا غير شكلها السابق -كشاشة السينما- لاحظ الأمر بدقة لترى روعة هذا النظام المتقن في هذه الشاشة التي تختلط فيها المشاهد بكثرة وتتغير بسرعة فهي مشاهد حقيقية يأخذ كل شئ مكانه الحقيقي في غاية الدقة والانسجام، حتى المشاهد الخيالية لا تبلغ هذا الحد من الانتظام والروعة والاتقان، بل لا يستطيع ملايين الساحرين البارعين من القيام بمثل هذه الأعمال البديعة.. إذن فللسلطان العظيم المستور عنا الشئ الكثير من الأمور الخارقة.

فيا أيها المغفل! إنك تقول: كيف يمكن أن تدمّر هذه المملكة العظيمة وتعمّر من جديد في مكان آخر؟.

فها هو ذا أمامك ما لا يقبله عقلك من تقلبات كثيرة وتبدلات مذهلة، فهذه السرعة في الاجتماع والافتراق، وهذا التبدل والتغير، وهذا البناء والهدم.. كلها تنبىء عن مقصد، وتنطوي على غاية، إذ يُصرف لأجل اجتماع في ساعة واحدة ما ينفق لعشر سنوات ! فهذه الأوضاع إذن ليست مقصودة لذاتها، بل هي أمثلة ونماذج للعرض هنا. فالسلطان يُنهي أعماله على وجه الإعجاز، كي تؤخذ صورها، وتُحفظ نتائجها وتُسجل كما تُسجل وتُحفظ كل ما في ميدان المناورات العسكرية. فالأمور والمعاملات إذن ستجري في الاجتماع الأكبر وتستمر وفق ما كانت هنا. وستعرض تلك الأمور عرضًا مستمرًا في المشهد الأعظم والمعرض الأكبر. أي أن هذه الأوضاع الزائلة تنتج ثمارًا باقية وتولّد صورًا خالدة هناك.

فالمقصود من هذه الاحتفالات إذن هو بلوغ سعادة عظمى، ومحكمة كبرى، وغايات سامية مستورة عنا.

* الصورة الحادية عشرة

تعال أيها الصديق المعاند، لنركب طائرة أو قطارًا، لنذهب إلى الشرق أو إلى الغرب -أي إلى الماضي أو إلى المستقبل- لنشاهد ما أظهره السلطان من معجزات متنوعة في سائر الأماكن. فما رأيناه هنا في المعرض، أو في الميدان، أو في القصر، من الأمور العجيبة له نماذج في كل مكان، إلا أنه يختلف من حيث الشكل والتركيب. فيا صاحبي، أنعم النظر في هذا، لترى مدى ظهور انتظام الحكمة، ومبلغ وضوح إشارات العناية، ومقدار بروز أمارات العدالة، ودرجة ظهور ثمرات الرحمة الواسعة، في تلك القصور المتبدلة، وفي تلك الميادين الفانية، وفي تلك المعارض الزائلة. فَمَن لم يفقد بصيرته يفهم يقينًا أنه لن تكون -بل لا يمكن تصور- حكمة أكملَ من حكمة ذلك السلطان ولا عناية أجملَ من عنايته، ولا رحمة أشمل من رحمته، ولا عدالة أجلّ من عدالته.. ولكن لما كانت هذه المملكة -كما هو معلوم- قاصرةً عن إظهار حقائق هذه الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، ولو لم تكن هناك في مقر مملكته -كما توهمت- قصور دائمة، وأماكن مرموقة ثابتة، ومساكن طيبة خالدة، ومواطنون مقيمون، ورعايا سعداء تحقق تلك الحكمة والعناية والرحمة والعدالة، يلزم عندئذٍ إنكار ما نبصره من حكمة، وإنكار ما نشاهده من عناية، وإنكار ما نراه من رحمة، وإنكار هذه الأمارات والإشارات للعدالة الظاهرة البينة.. إنكار كل ذلك بحماقة فاضحة كحماقة من يرى ضوء الشمس وينكر الشمس نفسَها في رابعة النهار! ويلزم أيضًا القول بأن القائم بما نراه من إجراءات تتسم بالحكمة وأفعالٍ ذات غايات كريمة وحسنات ملؤها الرحمة إنما يلهو ويعبث ويغدر -حاشاه ثم حاشاه- وما هذا إلا قلب الحقائق إلى أضدادها، وهو المحال باتفاق جميع ذوي العقول غير السوفسطائي الأبله الذي يُنكِر وجودَ الأشياء، حتى وجودَ نفسه.

فهناك إذن ديار غير هذه الديار، فيها محكمة كبرى ، ودار عدالة عليا، ومقرَّ كرم عظيم، لتظهر فيها هذه الرحمة وهذه الحكمة وهذه العناية وهذه العدالة بوضوح وجلاء.

* الصورة الثانية عشرة

تعال فلنرجع الآن يا صاحبي، لنلتقي ضباطَ هذه الجماعات ورؤساءها، انظر إلى معدّاتهم.. أزوّدوا بها لقضاء فترة قصيرة من الزمن في ميدان التدريب هذا، أم أنها وُهبَت لهم ليقضوا حياة سعيدة مديدة في مكان آخر؟ ولما كنا لا نستطيع لقاء كل واحد منهم، ولا نتمكن الاطلاع على جميع لوازمهم وتجهيزاتهم، لذا نحاول الاطلاع على هوية وسجل أعمال واحد منهم كنموذج ومثال. ففي الهوية نجد رتبة الضابط، ومرتّبه، ومهمته، وامتيازاته، ومجال أعماله، وكل ما يتعلق بأحواله.. لاحظ، إن هذه الرتبة ليست لأيام معدودة بل لمدة مديدة.. ولقد كتب في هويته أنه يتسلّم مرتّبه من الخزينة الخاصة بتاريخ كذا.. غير أن هذا التاريخ بعيد جدًا، ولا يأتي إلا بعد إنهاء مهام التدريب في هذا الميدان.. أما هذه الوظيفة فلا توافق هذا الميدان الموقت ولا تنسجم معه، بل هي للفوز بسعادة دائمة في مكان سامٍ عند الملك القدير.. أما الواجبات فهي كذلك لا يمكن أن تكون لقضاء أيام معدودة في دار الضيافة هذه، وإنما هي لحياة أخرى سعيدة أبدية.. يتضح من الهوية بجلاء، أن صاحبها مهيأ لمكان آخر، بل يسعى نحو عالم آخر.

انظر إلى هذه السجلات التي حدّدت فيها كيفية استعمال المعدّات والمسؤوليات المترتبة عليها، فإن لم تكن هناك منزلة رفيعة خالدة غير هذا الميدان، فلا معنى لهذه الهوية المتقنة، ولا لهذا السجل المنتظم، ولسقط الضابط المحترم والقائد المكرم والرئيس الموقر إلى درك هابط ولقي الشقاء والذلة والمهانة والنكبة والضعف والفقر.. وقس على هذا، فأينما أنعمت النظر متأملًا قادك النظر والتدبر إلى أن هناك بقاء بعد هذا الفناء..

فيا صديقي! إن هذه المملكة المؤقتة ما هي إلا بمثابة مزرعة، وميدان تعليم، وسُوق تجاري، فلابد أن تأتي بعدها محكمة كبرى وسعادة عظمى. فإذا أنكرتَ هذا، فسوف تضطر إلى إنكار كل الهويات والسجلات التي يمتلكها الضابط، وكل تلك العُدد والأعتدة والتعليمات، بل تضطر إلى إنكار جميع الأنظمة في هذه المملكة، بل إنكار وجود الدولة نفسها، وينبغي عند ذلك أن تكذّب جميع الإجراءات الحادثة. وعنده لا يمكن أن يُقال لك إنك إنسان له شعور. بل تكون إذ ذاك أشد حماقة من السوفسطائيين.

وإياك إياك أن تظـن أن دلائـل واشـارات تبـديل المملكة منحصـرة في«اثنتي عشرة» صورة التي أوردناها، إذ أن هناك ما لايعد ولا يحصى من الأمارات والأدلة على أن هذه المملكة المتغيرة الزائلة تتحول إلى أخرى مستقرة باقية، وهناك الكثير الكثير من الإشارات والعلامات تدل على أن هؤلاء الناس سينقلون من دار الضيافة المؤقتة الزائلة إلى مقر السلطنة الدائمة الخالدة.

يا صاحبي! تعال لأقرر لك برهانًا أكثر قوة ووضوحًا من تلك البراهين الاثنى عشر التي أنبأت عنها تلك الصور المتقدمة. تعال، فانظر إلى المبعوث الكريم، صاحب الأوسمة الرفيعة الذي شاهدناه في الجزيرة -من قبل- إنه يبلّغ أمرًا إلى الحشود الغفيرة التي تتراءى لنا على بُعد. فهيّا نذهب ونصغيِ إليه.. انتبه! فها هو يُفسّر للملأ البلاغ السلطاني الرفيع ويوضحه قائلًا لهم:

«تهيأوا! سترحلون إلى مملكة أخرى خالدة، ما أعظمها من مملكة رائعة! إن مملكتنا هذه تعدّ كالسجن بالنسبة لها. فإذا ما أصغيتم إلى هذا الأمر بإمعان، ونفّذتموه بإتقان ستكونون أهلًا لرحمة سلطاننا وإحسانِه في مستقره الذي تتجهون إليه، وإلا فالزنزانات الرهيبة مثواكم جزاء عصيانكم الأمر وعدم اكتراثكم به».

إنه يذكّر الحاضرين بهذا البلاغ، وأنت ترى على ذلك البلاغ العظيم ختمَ السلطان الذي لا يُقلّد. والجميع يدركون يقينًا -إلا أمثالك من العميان- أن ذلك المبعوث المجلل بالأوسمة الرفيعة هو مبلِّغ أمين لأوامر السلطان، بمجرد النظر إلى تلك الأوسمة.

فيا ترى هل يمكن الاعتراض على مسألة تبديل هذه المملكة التي يدعو إليها ذلك المبعوث الكريم بكل ما أوتي من قوة، ويتضمنه البلاغ الملكي السامي؟ كلا.. لا يمكن ذلك أبدًا، إلا إذا أنكرتَ جميع ما تراه من أمور وحوادث.

فالآن أيها الصديق! لك أن تقول ما تشاء.

ماذا عساي أن أقول؟ وهل بقي مزيد من قول لقائل أمام هذه الحقائق! وهل يقال للشمس وهي في كبد السماء، أين هي؟. إن كل ما أريد أن أقوله هو: الحمد لله، وألف شكر وشكر، فقد نجوت من قبضة الأوهام والأهواء، وتحررت من أسار النفس والسجن الأبدي، فآمنت بأن هناك دار سعادة عند السلطان المعظم، ونحن مهيأون لها بعد هذه الدار الفانية المضطربة.

وهكذا تمت الحكاية التي كانت كناية عن الحشر والقيامة. والآن ننتقل بتوفيق العلي القدير إلى الحقائق العليا، فسنبينها في (اثنتي عشرة حقيقة) وهي متسانده مترابطة مقابل الصور الاثنتي عشرة، بعد أن نمهد لها بمقدمة.