الحقيقة الأولى

باب الربوبية والسلطنة

وهو تجلي اسم ((الرَّب))

أمن الممكن لمَن له شأن الربوبية وسلطنة الألوهية، فأوجد كونًا بديعًا كهذا الكون؛ لغايات سامية ولمقاصد جليلة، إظهارا لكماله،ثم لا يكون لديه ثواب للمؤمنين الذين قابلوا تلك الغايات والمقاصد بالإيمان والعبودية، ولا يعاقِب أهل الضلالة الذين قابلوا تلك المقاصد بالرفض والاستخفاف..؟!

 

الحقيقة الثانية

باب الكرم والرحمة

وهو تجلي اسم ((الكريم والرَّحيم))

أمن الممكن لربّ هذا العالم ومالكه الذي أظهر بآثاره كرمًا بلا نهاية، ورحمة بلا نهاية، وعزة بلا نهاية، وغيرة بلا نهاية، أن لا يقدّر مثوبة تليق بكرمه ورحمته للمحسنين، ولا يقرر عقوبة تناسب عزته وغيرته للمسيئين؟.. فلو أنعم الإنسان النظر في سير الحوادث ابتداءً من أضعف كائن حيّ وأشده عجزًا (حاشية)  إن الدليل القاطع على أن الرزق الحلال يُعطى حسب الافتقار، ولا يؤخذ بقوة الكائن وقدرته، هو: سعة معيشة الصغار الذين لا طاقة لهم ولا حول وضيق معيشة الحيوانات المفترسة، وبدانة الأسماك البليدة وهزال الثعالب والقردة ذوي الذكاء والحيل. فالرزق إذن يأتي متناسبًا عكسيًا مع الاختيار والقدرة، أي: كلما اعتمد الكائن على ارادته ابتلي بضيق المعيشة وتكاليفها ابتلاء اكثر. المؤلف. وانتهاءً بأقوى كائن، لوجد أن كل كائن يأتيه رزقه رغدًا من كل مكان، بل يَمنح سبحانه أضعفَهم وأشدّهم عجزًا ألطف الأرزاق وأحسنها، ويسعف كل مريض بما يداويه.. وهكذا يجد كل ذي حاجة حاجته من حيث لا يحتسب.. فهذه الضيافة الفاخرة الكريمة، والإغداق المستمر، والكرم السامي، تدلّنا بداهة، أن يدًا كريمة خالدة هي التي تعمل وتدير الأمور.

فمثلًا: إن إكساء الأشجار جميعًا بحلل شبيهة بالسندس الخضر -كأنها حور الجنة- وتزيينَها بمرصعات الأزهار الجميلة والثمار اللطيفة، وتسخيرَها لخدمتنا بإنتاجها ألطف الأثمار المتنوعة وألذها في نهايات أغصانها التي هي أيديها اللطيفة.. وتمكيننا من جني العسل اللذيذ -الذي فيه شفاء للناس- من حشرة سامة.. وإلباسَنا أجمل ثياب وألينها مما تحوكه حشرة بلا يد.. وادّخار خزينة رحمة عظيمة لنا في بذرة صغيرة جدًا.. كل ذلك يرينا بداهةً كرمًا في غاية الجمال، ورحمة في غاية اللطف.

وكذا، إن سعي جميع المخلوقات، صغيرها وكبيرها -عدا الإنسان والوحوش الكاسرة- لإنجاز وظائفها بانتظام تام ودقة كاملة، ابتداءً من الشمس والقمر والأرض إلى أصغر مخلوق، بشكل لا يتجاوز أحد حدّه قيد أنملة، ضمن الطاعة التامة والانقياد الكامل المحفوفَين بهيبة عظيمة، يظهر لنا أن هذه المخلوقات لا تتحرك ولا تسكن إلا بأمر العظيم ذي العزة والجلال.

وكذا، إن عناية الأمهات بأولادهن الضعاف العاجزين -سواء في النبات أو الحيوان أو البشر- عناية ملؤها الرأفة والرحمة (حاشية) نعم إن إيثار الأسد الجائع شبله الضعيف على نفسه بما يظفر به من قطعة لحم، وهجوم الدجاج الجبان على الكلب والأسد حفاظًا على فراخها الصغيرة. وإعداد شجرة التين لصغارها التي هي ثمارها لبنًا خالصًا من الطين.. كل ذلك يدل بداهة لأهل البصائر أنها حصلت بأمر الرحيم الذي لا نهاية لرحمته، والكريم الذي لا نهاية لكرمه، والرؤوف الذي لا نهاية لرأفته وشفقته. وإن قيام النباتات والحيوانات التي لا وعي لها ولا شعور بأعمال في منتهى الوعي والشعور والحكمة، يبين بالضرورة أن عليمًا مطلقًا وحكيمًا مطلقًا هو الذي يسوقها إلى تلك الأعمال، وهي بأمره تأتمر. المؤلف، وتغذيتها بالغذاء اللطيف السائغ من اللبن، تريك عظمة التجليات، وسعة الرحمة المطلقة.

فما دام رب هذا العالم ومدبّره له هذا الكرم الواسع، وهذه الرحمة التي لا منتهى لها، وله الجلال والعزة المطلقان، وأن العزة والجلال المطلقين يقتضيان تأديب المستخفين، والكرم الواسع المطلق يتطلب إكرامًا غير متناه، والرحمة التي وسعت كل شئ تستدعي إحسانًا يليق بها، بينما لا يتحقق من كل ذلك في هذه الدنيا الفانية والعمر القصير إلا جزء ضئيل جدًا هو كقطرة من بحر.

فلابد أن تكون هناك دار سعادة تليق بذلك الكرم العميم، وتنسجم مع تلك الرحمة الواسعة.. وإلا يلزم جحود هذه الرحمة المشهودة، بما هو كإنكار وجود الشمس التي يملأ نورُها النهارَ، لأن الزوال الذي لا رجعة بعده يستلزم انتفاء حقيقة الرحمة من الوجود، بتبديله الشفقة مصيبةً، والمحبة حرقةً، والنعمة نقمةً واللذة ألمًا، والعقل المحمود عضوًا مشؤومًا.

وعليه فلابد من دار جزاء تناسب ذلك الجلال والعزة وتنسجم معها. لأنه غالبًا ما يظل الظالمُ في عزته، والمظلومُ في ذلته وخنوعه، ثم يرحلان على حالهما بلا عقاب ولا ثواب.

فالأمر إذن ليس إهمالًا قط، وإن أُمهلَت إلى محكمة كبرى، فالقضية لم تُهمل ولن تُهمل، بل قد تُعَجّل العقوبة في الدنيا. فإنزال العذاب في القرون الغابرة بأقوام عصت وتمردت يبين لنا أن الإنسان ليس متروكًا زمامه، يسرح وفق ما يملى عليه هواه، بل هو معرّض دائمًا لصفعات ذي العزة والجلال.

نعم، إن هذا الإنسان الذي أنيط به -من بين جميع المخلوقات- مهام عظيمة، وزود باستعدادات فطرية كاملة، إن لم يعرف ربه ((بالإيمان)) بعد أن عرّف سبحانه نفسَه إليه بمخلوقاته البديعة المنتظمة.. وإن لم ينل محبته بالتقرب إليه بـ ((العبادة)) بعد أن تحبب إليه سبحانه بنفسه وعرّفها إليه بما خلق له من الثمار المتنوعة الجميلة الدالة على رحمته الواسعة.. وإن لم يقم بالتوقير والإجلال اللائقين به ((بالشكر والحمد)) بعد أن أظهر سبحانه محبته له ورحمته عليه بنعمه الكثيرة… نعم، إن لم يعرف هذا الإنسان ربه هكذا، فكيف يُترك سدى دون جزاء، ودون أن يعدّ له ذو العزة والجلال دارًا للعقاب؟

وهل من الممكن أن لا يمنح ذلك الرب الرحيم دار ثوابٍ وسعادة أبدية، لأولئك المؤمنين الذين قابلوا تعريفَ ذاته سبحانه لهم بمعرفتهم إياه بـ ((الإيمان)) ومحبته لهم، بالحب والتحبب له بـ ((العبادة))، ورحمته لهم بالإجلال والتوقير له بـ ((الشكر))؟

الحقيقة الثالثة

باب الحكمة والعدالة

وهو تجلي اسم ((الحكيم والعادل))

أمن الممكن (حاشية) إن عبارة  «أمن الممكن؟» تتكرر كثيرًا، فهي تفيد غاية مهمة وهي: أن الكفر والضلال يتولدان غالبًا من الاستبعاد، أي يرى الإنسان ما لا يعتقده بعيدًا عن ميزان العقل، فيعدّه محالًا، ويبدأ بالإنكار والكفر.. ولكن هذه الكلمة (الحشر) أوضحت بأدلة قاطعة: أن الاستبعاد الحقيقي والمحال الحقيقي والبعد عن موازين العقل والصعوبة الحقة والمشكلات العويصة التي هي بدرجة الامتناع، إنما هي في الكفر ومنهج أهل الضلال. وأن الإمكان الحقيقي، والمعقولية التامة والسهولة الجارية مجرى الوجوب، إنما هي في طريق الإيمان، وجادة الإسلام.

والخلاصة: إن الفلاسفة إنما زلّوا إلى الإنكار نتيجة الاستبعاد. وهذه (الكلمة العاشرة) تبين بتلك العبارة: «أمن الممكن؟» أين يكمن الاستبعاد، وتوجّه ضربة على أفواههم. المؤلف. لخالق ذي جلال أظهر سلطان ربوبيته بتدبير قانون الوجود ابتداء من الذرات وانتهاء بالمجرات، بغاية الحكمة والنظام وبمنتهى العدالة والميزان.. أن لا يعامل بالإحسان من احتموا بتلك الربوبية وانقادوا لتلك الحكمة والعدالة، وأن لا يجازي أولئك الذين عصوا بكفرهم وطغيانهم تلك الحكمة والعدالة؟.

بينما الإنسان لا يلقى ما يستحقه من الثواب أو العقاب في هذه الحياة الفانية على وجه يليق بتلك الحكمة وتلك العدالة إلا نادرًا، بل يؤخر، إذ يرحل أغلب أهل الضلالة دون أن يلقوا عقابهم، ويذهب أكثر أهل الهداية دون أن ينالوا ثوابهم.. فلابد أن تناط القضية بمحكمة عادلة، وبلقاءٍ آيل إلى سعادة عظمى.

نعم، إنه لواضح أن الذي يتصرف في هذا الكون إنما يتصرف فيه بحكمة مطلقة. أفتطلب برهانًا على هذا؟.. فانظر إلى رعايته سبحانه للمصالح والفوائد في كل شئ!.. ألا ترى أن أعضاء الإنسان جميعًا سواء العظام منها أو العروق وحتى خلاياه الجسمية وكل جزء منه ومكان، قد روعيت فيه فوائد وحكم شتى، بل إن في أعضاء جسمه من الفوائد والأسرار بقدر ما تنتجه الشجرة الواحدة من الثمار، مما يدل على أن يد حكمة مطلقة تدير الأمور. فضلًا عن التناسق البديع في صنعة كل شئ والانتظام الكامل فيها اللذان يدلان على أن الأمور تؤدى بحكمة مطلقة.

نعم، إن تضمين الخطة الدقيقة لزهرة جميلة في بُذيرتها الصغيرة، وكتابة صحيفة أعمال شجرة ضخمة وتاريخ حياتها وفهرس أجهزتها، في نويّتها بقلم القَدَر المعنوي.. يرينا بوضوح أن قلم حكمةٍ مطلقة هو الذي يتصرف في الأمر.. وكذا، وجود روعة الصنعة الجميلة وغاية حُسنها في خلقة كل شئ، يُظهر أن صانعًا حكيمًا مطلقًا هو صاحب هذا الإبداع وهذه النقوش..

نعم، إن إدراج فهرس الكائنات جميعًا، ومفاتيح خزائن الرحمة كافة ومرايا الأسماء الحسنى كلها، في هذا الجسم الصغير للإنسان، لمما يدل على الحكمة البليغة في الصنعة البديعة.. فهل من الممكن لمثل هذه الحكمة المهيمنة على مثل هذه الإجراءات والشؤون الربانية أن لا تحسن معاملة أولئك الذين استظلوا بظلها وانقادوا لها بالإيمان، وأن لا تثيبهم إثابة أبدية خالدة؟.

وهل تريد برهانًا على إنجاز الأعمال بالعدل والميزان؟

إن منح كل شئ وجودًا بموازين حساسة، وبمقاييس خاصة، وإلباسَه صورة معينة، ووضعَه في موضع ملائم.. يبيّن بوضوح أن الأمور تسير وفق عدالة وميزان مطلقين.

وكذا، إعطاء كل ذي حق حقه وفق استعداده ومواهبه، أي إعطاء كل ما يلزم، وما هو ضروري لوجوده، وتوفير جميع ما يحتاج إلى بقائه في أفضل وضع، يدلّ على أن يد عدالة مطلقة هي التي تُسيّر الأمور.

وكذا، الاستجابة المستمرة والدائمة لما يُسأل بلسان الاستعداد او الحاجة الفطرية، أو بلسان الاضطرار، تُظهر أن عدالةً مطلقة، وحكمة مطلقة هما اللتان تُجريان عجلة الوجود.

فالآن، هل من الممكن أن تهمل هذه العدالة وهذه الحكمة تلك الحاجة العظمى، حاجة البقاء لأسمى مخلوق وهو الإنسان؟ في حين إنهما تستجيبان لأدنى حاجة لأضعف مخلوق؟ فهل من الممكن أن تردّا أهم ما يرجوه الإنسان وأعظم ما يتمناه، وألاّ تصونا حشمة الربوبية وتتخلفا عن الإجابة لحقوق العباد؟.

غير أن الإنسان الذي يقضي حياة قصيرة في هذه الدنيا الفانية لا ينال ولن ينال حقيقة مثل هذه العدالة. وإنما تؤخّر إلى محكمة كبرى. حيث تقتضي العدالة الحقة أن يلاقي هذا الإنسان الصغير ثوابَه وعقابه لا على أساس صغره، بل على أساس ضخامة جنايته، وعلى أساس أهمية ماهيته، وعلى اساس عظمة مهمته.. وحيث أن هذه الدنيا العابرة بعيدة كل البعد عن أن تكون محلًا لمثل هذه العدالة والحكمة بما يخص هذا الإنسان -المخلوق لحياة أبدية- فلابد من جنة أبدية، ومن جهنم دائمة للعادل الجليل ذي الجمال وللحكيم الجميل ذي الجلال.

  

الحقيقة الرابعة

باب الجود والجمال

وهو تجلي اسم ((الجواد والجميل))

أمن الممكن لجود وسخاء مطلقين، وثروة لا تنضب، وخزائن لا تنفد، وجمال سرمدي لا مثيل له، وكمال أبدي لا نقص فيه، أن لا يطلب دار سعادةٍ ومحل ضيافةٍ، يخلد فيه المحتاجون للجود، الشاكرون له، والمشتاقون إلى الجمال، المعجبون به؟

إن تزيين وجه العالم بهذه المصنوعات الجميلة اللطيفة، وجعل الشمس سراجًا، والقمر نورًا، وسطح الأرض مائدة للنعم، وملأها بألذ الأطعمة الشهية المتنوعة، وجعل الأشجار أواني وصحافًا تتجدد مرارًا كل موسم.. كل ذلك يظهر سخاءً وجودًا لا حد لهما. فلابد أن يكون لمثل هذا الجود والسخاء المطلقين، ولمثل هذه الخزائن التي لا تنفد، ولمثل هذه الرحمة التي وسعت كل شئ، دارَ ضيافة دائمة، ومحل سعادة خالدة يحوي ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وتستدعي قطعًا أن يخلد المتلذذون في تلك الدار، ويظلوا ملازمين لتلك السعادة ليبتعدوا عن الزوال والفراق، إذ كما أن زوال اللذة ألم فزوال الألم لذة كذلك، فمثل هذا السخاء يأبى الإيذاء قطعًا.

أي أن الأمر يقتضي وجود جنة أبدية، وخلود المحتاجين فيها؛ لأن الجود والسخاء المطلقين يتطلبان إحسانًا وإنعامًا مطلقين، والإحسان والإنعام غير المتناهيين يتطلبان تنعمًا وامتنانًا غير متناهيين، وهذا يقتضي خلود إنعام مَن يستحق الإحسان إليه، كي يظهر شكره وامتنانه بتنعمه الدائم إزاء ذلك الإنعام الدائم.. وإلا فاللذة اليسيرة -التي ينغّصها الزوال والفراق- في هذه الفترة الوجيزة لا يمكن أن تنسجم ومقتضى هذا الجود والسخاء.

ثم انظر إلى معارض أقطار العالم التي هي مشهد من مشاهد الصنعة الإلهية، وتدبّر في ما تحمله النباتات والحيوانات على وجه الأرض من إعلانات ربانية (حاشية) نعم، إن الزهرة الجميلة وهي في غاية الزينة والزخرفة، والثمرة المنضّدة وهي في منتهى الإتقان والإبداع، المعلقتين بخيط دقيق في نهاية أغصان يابسة يبوسة العظم.. لاشك إنهما “لوحة إعلان” تجعل ذوي المشاعر يقرأون فيها محاسن صنعة الصانع المعجز الحكيم!.. قس على النباتات الحيوانات أيضًا. المؤلف. وانصت إلى الداعين الأدلاء إلى محاسن الربوبية وهم الأنبياء عليهم السلام والأولياء الصالحون، كيف أنهم يرشدون جميعًا الناس لمشاهدة كمال صنعة الصانع ذي الجلال بتشهيرهم صنعته البديعة ويلفتون أنظارهم إليها.

إذن، فلصانع هذا العالم كمال فائق عظيم مثير للإعجاب، خفي مستتر، فهو يريد إظهاره بهذه المصنوعات البديعة، لأن الكمال الخفي الذي لا نقص فيه ينبغي الإعلان عنه على رؤوس أشهادٍ مقدّرين مستحسنين معجبين به. وأن الكمال الدائم يقتضي ظهورًا دائمًا، وهذا بدوره يستدعى دوام المستحسنين المعجبين، إذ المعجب الذي لا يدوم بقاؤه تسقط في نظره قيمة الكمال (حاشية) نعم لقد ذَهَب مثلًا: أن حسناء بارعةَ الجمال طردت أحدَ المعجبين بها، فقال هذا المعجب مسليًا نفسه: تبًّا لها ما أقبحها.. منكرًا جمال تلك الجميلة.وذات يوم مرّ دُب تحت شجرة عنب ذات عناقيد لذيذة، فأراد أن يأكل من ذلك العنب الحلو، ولّما لم تصل يده إليه، وعجز عن التسلق، قال متمتمًا: إنه حامض، فسلى نفسه.. ومضى في طريقه. المؤلف.

ثم إن هذه الموجودات العجيبة البديعة الدقيقة الرائعة المنتشرة في هذا الكون تدل بوضوح -كدلالة ضوء النهار على وجود الشمس- على محاسن الجمال المعنوي الذي لا مثيل له، وتريك كذلك لطائف الحسن الخفي الذي لا نظير له (حاشية) إن الموجودات الشبيهة بالمرايا مع أنها تتعاقب بالزوال والفناء فإن وجود تجليات الجمال نفسه والحسن عينه في وجهها، وفي التي تعقبها، يدل على أن ذلك الجمال ليس ملكًا لها، بل هو آيات حسنٍ منزّه، وأمارات جمالٍ مقدّس. المؤلف. وأن تجلي ذلك الحُسن الباهر المنزّه، وذلك الجمال الزاهر المقدس يشير إلى كنوز كثيرة خفية موجودة في الأسماء الحسنى، بل في كل اسم منها.

ومثلما يطلب هذا الجمال الخفي السامي الذي لا مثيل له، أن يرى محاسنه في مرآة عاكسة ويشهد قِيَم حُسنه ومقاييس جماله في مرآة ذات مشاعر وأشواق إليه، فإنه يريد الظهور والتجلي ليرى جماله المحبوب أيضًا بأنظار الآخرين. أي أن النظر إلى جمال ذاته يستدعي أن يكون من جهتين:

الأولى: مشاهدة الجمال بالذات في المرايا المختلفة المتعددة الألوان.

والأخرى: مشاهدة الجمال بنظر المشاهدين المشتاقين المعجبين المستحسنين.

أي أن الجمال والحسن يقتضيان الشهود والإشهاد ((الرؤية والإراءة)) وهذا الشهود والإشهاد يستلزمان وجود المشاهدين المشتاقين والمستحسنين المعجبين.. ولما كان الجمال والحسن خالدَين سرمديين فإنهما يقتضيان خلود المشتاقين وديمومتهم. لأن الجمال الدائم لا يرضى بالمشتاق الزائل الآفل. لذا فالمشاهد الذي يشعر بالزوال -وقضى على نفسه بعدم العودة إلى الحياة- تتحول بمجرد تصوره الزوال محبته عداءً، وإعجابه استخفافًا، واحترامه إهانةً، لأن الشخص الأناني مثلما يعادي مايجهله يعادي ما لا تصل إليه يده أيضًا، فيضمر عداءً وحقدًا وإنكارًا لذلك الجمال الذي ينبغي أن يقابَل بما يستحقه من محبة بلا نهاية وشوق بلا غاية وإعجاب بلا حدّ. ومن هذا يُفهم سرّ كون الكافر عدوًا لله سبحانه وتعالى.

ولما كان ذلك الجود في العطاء غير المحدود، وذلك الحسن في الجمال الذي لا مثيل له، وذلك الكمال الذي لا نقص فيه.. يقتضي خلود الشاكرين، وبقاء المشتاقين المستحسنين، ونحن نشاهد رحلة كل شخص واختفاءه بسرعة في دار ضيافة الدنيا هذه، دون أن يستمتع بإحسان ذلك السخاء إلا نزرًا يسيرًا بما يفتح شهيته فقط، ودون أن يرى من نور ذلك الجمال والكمال إلا لمحة خاطفة. إذن الرحلة منطلقة نحو متنزهات خالدة ومَشاهدَ أبدية.

الخلاصة: مثلما أن هذا العالم يدل بموجوداته دلالة قاطعة يقينًا على صانعه الكريم ذي الجلال، فصفاته المقدسة سبحانه وأسماؤه الحسنى تدل كذلك على الدار الآخرة بلا ريب وتظهرها، بل تقتضيها.

 

 الحقيقة الخامسة

باب الشفقة وعبودية محمد صلى الله عليه وسلم

وهو تجلي اسم ((المجيب والرَّحيم))

أمن الممكن لرب ذي رحمة واسعة وشفقة غير متناهية يبصر أخفى حاجة لأدنى مخلوق، ويسعفه من حيث لا يحتسب برأفة غير متناهية ورحمة سابغة، ويسمع أخفت صوت لأخفى مخلوق فيغيثه، ويجيب كل داعٍ بلسان الحال والمقال، أمن الممكن ألا يقضى هذا الرب المجيب الرحيم أهم حاجة لأعظم عباده (حاشية) نعم، إن الذي حكم ودام سلطان حكمه ألفًا وثلاثمائة وخمسين سنة. والذي عدد أمته أكثر من ثلثمائة وخمسين مليونًا في أغلب الأوقات وهم يجددون معه البيعة يوميًا، ويشهدون بعلو مكانته وينقادون لأوامره انقيادًا تامًا عن رغبة وطواعية.. هذا الذي تسربل نصف الأرض وخمس البشرية بسرباله المبارك، وانطبع بطابعه المعنوي، وأصبحت ذاتُه الشريفة محبوبةَ قلوبهم، ومربيةَ أرواحهم، ومزكّية نفوسهم، لا ريب أنه العبد الأعظم لرب العالمين سبحانه.. هذا العبد الكريم الذي رحّب أغلب أنواع الكائنات بمهمته ورسالته فحمل كلُ نوع ثمرةً من ثمرات معجزاته، لا ريب أنه أحب مخلوق لدى الخالق العظيم.. وأن البشرية التي ترجو الخلود بكل ما لها من استعداد وتطلب هذه الحاجة الملحة التي تنقذها من التردي إلى دركات أسفل سافلين وترفعها إلى درجات أعلى عليين.. فهي حاجة عظمى، لا ريب أن من يتقدم بها ويرفعها إلى قاضي الحاجات لهو أعظم العباد. المؤلف. وأحب خلقه إليه، ولا يسعفه بما يرجوه منه؟

فحُسن تربية صغار الحيوانات وضعافها، وإعاشتها بسهولة ولطف ظاهريين ترياننا أن مالك هذه الكائنات يسيّرها بربوبية لا حدّ لرحمتها. فهل يعقل لهذه الربوبية المتصفة بكمال الشفقة والرأفة ألا تستجيب لأجمل دعاء لأفضل مخلوق؟..

وكما بينتُ هذه الحقيقة في ((الكلمة التاسعة عشرة)) أعيد بيانها هنا:

فيا صديقي الذي يسمعني مع نفسي! لقد ذكرنا في الحكاية: أن هناك اجتماعًا في جزيرة، وأن مبعوثًا كريمًا يرتجل خطبة هناك، فحقيقة ما أشارت إليه الحكاية هي ما يأتي:

تعال! لنتجرد من قيود الزمان، ولنذهب بأفكارنا إلى عصر النبوة، وبخيالنا إلى تلك الجزيرة العربية كي نحظى بزيارته صلى الله عليه وسلم ، وهو يزاول وظيفته بكامل عبوديته. انظر! كيف أنه سبب السعادة بما أتى به من رسالة وهداية، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الداعي لايجاد تلك السعادة وخلق الجنة بدعائه وبعبوديته.

انظر إلى هذا النبي الكريم إلامَ يدعو.. إنه يدعو إلى السعادة الأبدية في صلاة كبرى شاملة، وفي عبادة رفيعة مستغرقة، حتى أن الجزيرة العربية، بل الأرض برمّتها، كأنها تصلي مع صلاته، وتبتهل إلى الله بابتهاله الجميل، ذلك لأن عبوديته صلى الله عليه وسلم تتضمن عبودية جميع أمته الذين اتبعوه، كما تتضمن -بسر الموافقة في الأصول- سرّ العبودية لجميع الأنبياء عليهم السلام. فهو يؤم صلاة كبرى -أيّما صلاة- ويتضرع بدعاء -ويا له من تضرع رقيق- في خلق عظيم، كأن الذين تنوروا بنور الإيمان -من لدن آدم عليه السلام إلى الآن وإلى يوم القيامة- اقتدوا به، وأمّنوا على دعائه (حاشية) نعم، إن جميع الصلوات التي تقيمها الأمة كلها، منذ المناجاة الأحمدية عليه الصلاة والسلام وجميع الصلوات والتسليمات التي تبعثها إلى النبيص إن هي إلا تأمين دائم لدعائه، ومشاركة عامة معه، حتى أن كل صلاة وسلام عليه هو تأمين على ذلك الدعاء. وأن ما يأتيه كل فرد من أفراد الأمة من الصلوات في الصلاة، ومن الدعاء عقب الإقامة لدى الشافعية إنما هو تأمين عام على ذلك الدعاء الذي يدعو به للسعادة الأبدية. فالنبي صلى الله عليه وسلم يرجو في دعائه البقاء والسعادة الأبدية، وهذا هو ما يريده الإنسان ويرجوه بكل ما أوتي من قوة بلسان حال فطرته، لذا يؤمّن خلفه جميع الذين تنوّروا بنور الإيمان. فهل يمكن ألاّ يقرن هذا الدعاء بالقبول والإستجابة؟! المؤلف. انظر! كيف يدعو الله حاجة عامة كحاجة البقاء والخلود!. هذه الدعوة التي لا يشترك فيها معه أهل الأرض وحدهم، بل أهل السموات أيضًا، لا بل الموجودات كافة. فتقول بلسان الحال: «آمين اللهم آمين استجب يا ربنا دعاءه، فنحن نتوسل بك ونتضرع إليك مثله».

ثم انظر! إنه يسأل تلك السعادة والخلود بكل رقة وحزن، وبكل حب وود، وبكل شوق وإلحاح، وبكل تضرع ورجاء، يُحزن الكون جميعًا ويبكيه فيُسهمه في الدعاء.

ثم انظر وتأمل! إنه يدعو طالبًا السعادة لقصد عظيم، ولغاية سامية.. يطلبها لينقذ الإنسان والمخلوقات جميعًا من التردي إلى هاوية أسفل سافلين وهو الفناء المطلق والضياع والعبث، ويرفعه إلى أعلى عليين وهو الرفعة والبقاء وتقلّد الواجبات وتسلّم المسؤوليات، ليكون أهلًا لها ويرقى إلى مرتبة مكاتيب صمدانية.

انظر! كيف أنه يطلب الإستعانة مستغيثًا ببكاء، متضرعًا راجيًا من الأعماق، متوسلًا بإلحاح.. حتى كأنه يُسمع الموجودات جميعًا، بل السموات، بل العرش، فيهزّهم وجدًا وشوقًا إلى دعائه ويجعلهم يرددون: آمين اللّهم آمين (حاشية) نعم، إنه لا يمكن بحال من الأحوال ألاّ يطّلعَ ربُّ هذا العالم على أفعال مَن هو بالمنزلة الرفيعة من خَلقه، في الوقت الذي يتصرف في الكون بكل علم وبصيرة وحكمة، كما هو مشاهد. ولا يمكن أيضًا بحال من الأحوال ألاّ يبالي ذلك الرب العليم بدعاء هذا العبد المختارمن عباده، وهو المطلع على كل أفعاله ودعواته.كذلك لا يمكن بحال من الأحوال ألاّ يستجيب ذلك الرب القدير الرحيم لتلك الدعوات وهو يرى من صاحبها كل التجرد والافتقار إليه.

نعم، لقد تبدل وضع العالم بنور النبي صلى الله عليه وسلم ، وتبينت حقيقة الإنسان والكون وماهيتهما بذلك النور، وانكشفت بذلك الضياء. فظهر: أن موجودات هذا الكون مكاتيب صمدانية تستقرئ الأسماء الحسنى، ومأمورات موظفات، وموجودات نفيسة ذات معنى ومغزى تليق بالبقاء. فلولا ذلك النور لظل الكون مستورًا تحت ظلام الأوهام، محكومًا عليه بالفناء المطلق والعدم، تافهًا دون معنى ودون نفع، بل كان عبثًا وسدى ووليد الصدفة. ولهذا السر فإن كل شيءٍ في الأرض والسماء، من الثرى إلى الثريا يستضيئ بنوره صلى الله عليه وسلم ويبدى علاقته به مثلما يؤمّن الإنسان لدعائه ولا غرو أن روح العبودية المحمدية ومخها إنما هو الدعاء بل إن حركات الكون ووظائفه جميعًا ما هي إلا نوع من الدعاء، فنمو البذرة وتحولاتها مثلًا ما هو إلا نوع من دعاء لبارئها لتصبح شجرة باسقة. المؤلف.

وانظر! إنه يسأل السعادة والبقاء الأبدي، ويرجوهما من قدير سميع كريم، ومن عليم بصير رحيم يرى ويسمع أخفى حاجة لأضعف مخلوق فيتداركه برحمته، ويستجيب له، حتى إن كان دعاءً بلسان الحال.

نعم، إنه يستجيب له ببصيرة ورحمة ويغيثه بحكمة، مما ينقي أية شبهةٌ بأن تلك الرعاية الفائقة ليست إلا من لدن سميع بصير، وأن ذلك التدبير الدقيق ليس إلا من عند كريم رحيم.

نعم، إن الذي يقود جميع بنى آدم على هذه الأرض متوجهًا إلى العرش الأعظم، رافعًا يديه، داعيًا بدعاء شامل لحقيقة العبودية الأحمدية التي هي خلاصة عبودية البشرية.. تُرى ماذا يريد؟ ماذا يريد شرف الإنسانية، وفخر الكائنات، وفريد الأزمان والأكوان؟!. لننصت إليه.. إنه يسأل السعادة الأبدية لنفسه ولأمته، إنه يسأل الخلود في دار البقاء، إنه يسأل الجنة ونعيمها.. نعم، يسألها ويرجوها مع تلك الأسماء الإلهية المتجلية بجمالها في مرآة الموجودات.. إنه يستشفع تلك الأسماء الحسنى كما ترى.

أرأيت إن لم يكن شئ من أسباب موجبة لا تعد ولا تحصى للآخرة ولا شئ من دلائل وجودها، أليس دعاء واحد من هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم سببًا كافيًا لايجاد الجنة (حاشية) نعم، إن ابداء نماذج الصنعة الدقيقة البديعة التي لا تعد ولا تحصى على وجه الأرض الذي هو بمثابة صحيفة صغيرة بالنسبة إلى عالم الآخرة الفسيح، وكذا إراءة نماذج الحشر والقيامة في ثلاثمائة ألفٍ من مخلوقات ذات موازنة وانتظام، وكتابتها في تلك الصحيفة الواحدة بهذا النظام البديع، لاشك إنها أعقد من تهيئة الجنة الموسومة بالفخامة والرفعة في عالم البقاء الرحب، لذا يصح القول: إن خلق حدائق الربيع بما فيها من الأزهار والرياحين أمر يبعث على الحيرة والدهشة أكثر مما يبعثها خلقُ الجنة، وبنسبة علو درجة الجنة ورفعة مكانتها على الربيع. المؤلف. التي هي سهلة على قدرة خالقنا الرحيم، كسهولة إعادة الحياة إلى الأرض في أيام الربيع؟.

نعم، إن الذي جعل سطح الأرض في الربيع مثالًا للحشر، فأوجد فيه مائة نموذج من نماذجه بقدرته المطلقة، كيف يصعب عليه إيجاد الجنة؟.. إذن فكما كانت رسالته صلى الله عليه وسلم سببًا لإيجاد دار الامتحان هذه، وصارت بيانًا وإيضًاحًا لسر ((لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك)) فإن عبوديته كذلك أصبحت سببًا لخلق تلك الدار السعيدة الأبدية.

فهل من الممكن يا ترى لانتظام العالم البديع الذي حيّر العقول والصنعة المتقنة وجمال الربوبية الشاملة في إطار رحمته الواسعة، أن يقبل قبحًا فظيعًا وظلمًا شنيعًا وفوضى ضاربة أطنابها، بعدم استجابة ذلك الدعاء أي أن لا يراعي ولا يسمع ولا ينجز أكثر الرغبات أهمية، واشدها ضرورة في حين أنه يراعي باهتمام بالغ أبسط الرغبات وأصغرها، ويسمع أخفت الأصوات وأدقها ويقضي لكل ذي حاجة حاجته! كلا ثم كلا ألف ألف مرة، إن مثل هذا الجمال يأبى التشوه ولن يكون قبيحًا (حاشية) نعم، إن انقلاب الحقائق محال بالاتفاق. وأشد محالاته هو انقلاب الضد إلى ضده. وضمن عدم إمكان انقلاب الحقائق إلى أضدادها حقيقة لا تقبل الضد قطعًا، وهي انقلاب الشيء مع احتفاظه بماهيته إلى عين ضده، كأن ينقلب الجمال المطلق مع احتفاظه بهذا الجمال إلى القبح الحقيقي! فتحول جمال الربوبية الواضح والظاهر ظهورًا جليًا إلى ضده مع بقائه على ماهيته هو أشد محالًا وأكثر عجبًا في احكام العقل. المؤلف.

فالرسول صلى الله عليه وسلم إذن يفتح بعبوديته باب الآخرة مثلما فتح برسالته باب الدنيا.

عليه صلوات الرحمن ملء الدنيا ودار الجنان.

اللّهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك، ذلك الحبيب الذي هو سيد الكونين، وفخر العالمين، وحياة الدارين، ووسيلة السعادتين، وذو الجناحين، ورسول الثقلين وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين. آمين.