«رسالة الاقتصاد»

(هذه الرسالة تحضّ على الاقتصاد والقناعة وتحذّر من مغبة الإسراف والتبذير)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ (الأعراف:31)

(هذه الآية الكريمة تلقّن درساً في غاية الأهمية وترشد إرشاداً حكيماً بليغاً بصيغة الأمر إلى الاقتصاد، ونهي صريحٍ عن الإسراف. تتضمن هذه المسالة سبعَ نكات).

النكتة الأولى

إنَّ الخالق الرحيم سبحانه يطلب من البشرية شكراً وحمداً إزاء ما أَغدقَ عليها من النعم والآلاء، إلّا أَنَّ الإسراف منافٍ للشكر وهو استخفاف خاسر ووخيم تجاه النعمة، بينما الاقتصاد توقيرٌ مربح إزاء النعمة.

أَجل! إنَّ الاقتصاد كما هو شكرٌ معنوي، فهو توقير للرحمة الإلهية الكامنة في النعم والإحسان.. وهو سبب حاسم للبركة والاستكثار.. وهو مدار صحة الجسد كالحِمية.. وهو سبيل إلى العزة بالابتعاد عن ذلّ الاستجداء المعنوي.. وهو وسيلة قوية للاحساس بما في النعم والآلاء من لذة.. وهو سبب متين لتذوق اللذائذ المخبأَة في ثنايا نعَمٍ تبدو غير لذيذة.. ولكون الإسراف يخالف الحِكَم المذكورة آنفاً باتت عواقبُه وخيمة.

النكتة الثانية

لقد خلق الفاطر الحكيم جسم الإنسان بما يشبه قصراً كاملَ التقويم وبما يماثل مدينة منتظمة الأجزاء، وجعل حاسةَ الذوق المغروزة في فمه كالبوّاب الحارس، والأعصاب والأوعية بمثابة أسلاك هاتف وتلغراف (تتم خلالها دورة المخابرة الحساسة بين القوة الذائقة والمعدة التي هي في مركز كيان الإنسان) بحيث تقوم حاسةُ الذوق تلك بإبلاغ ما حلّ في الفم من المواد، وتحجز عن البدن والمعدة الأشياء الضارة التي لا حاجةَ للجسم لها قائلة: «ممنوع الدخول» نابذةً إياها، بل لا تلبث أَنْ تدفع وتبصق باستهجان في وجهِ كل ما هو غير نافع للبدن فضلاً عن ضرره ومرارته.

ولما كانت القوة الذائقة في الفم تؤدي دور الحارس. وإن المعدة هي سيدةُ الجسد وحاكمته من حيث الإدارة، فلو بلغت قيمةُ هديةٍ تُقدَّم إلى حاكم القصر مائة درجة فإنَّ خُمساً منها فقط يجوز أن يعطى هبةً للحارس لا أكثر، كيلا يختال الحارس وينسى وظيفتَه ويقحمَ في القصر كل مخلّ عابث يرشوه قرشاً أكثر.

وهكذا، بناءً على هذا السرّ، نفترض الآن أمامنا لقمتان، لقمة منها من مادة مغذّية -كالجبن والبيض مثلاً- يُقدّر ثمنها بقرش واحد، واللقمة الأخرى حلوى من نوع فاخر يُقدّر ثمنها بعشرة قروش، فهاتان اللقمتان متساويتان قبل دخولهما الفم ولا فرق بينهما، وهما متساويتان كذلك من حيث إنماء الجسم وتغذيته بعد دخولهما الفم ونزولهما عبر البلعوم. بل قد يغذّي الجبن -الذي هو بقرش واحد- تغذية أفضل وتنمية أقوى من اللقمة الأخرى. إذن ليس هناك من فرق إلّا ملاطفةَ القوة الذائقة في الفم التي لا تستغرق سوى نصف دقيقة. فليقدَّر إذن مدى ضرر الإسراف ويوازَن مدى التفاهة في صرف عشرة قروش بدلاً عن قرش واحد في سبيل الحصول على لذة تستغرق نصف دقيقة!

وهكذا فإن إثابة الحارس تسعة أضعاف ما يُقدّم إلى حاكم القصر من هدايا تُفضي به لا محالة إلى الغرور والجشع وتدفعه بالتالي إلى القول: إنما أنا الحاكم. فمَنْ كافأه بهبة أكثر ولذة أزيد دفعه إلى الداخل، مسبّباً إخلال النظام القائم هناك، مضرماً فيه ناراً مستعرة وملزماً صاحبه الاستغاثة صارخاً: هيّا أسرعوا إلى بالطبيب حالاً ليخفف شدة حرارتي ويطفئ لظى نارها.

فالاقتصاد والقناعة منسجمان انسجاماً تاماً مع الحكمة الإلهية، إذ يتعاملان مع القوة الذائقة معاملة الحارس، ويقفانها عند حدّها ويكافئانها حسب تلك الوظيفة. أما الإسراف فلأنه يسلك سلوكاً مخالفاً لتلك الحكمة، فسرعان ما يتلقّى المسرف صفعات موجِعة، إذ تحدث الاختلاطات المؤلمة في المعدة التي تؤدي إلى فقدان الشهية الحقيقية نحو الأكل، فيأكل بشهية كاذبة مصطنعة بتنويع الأطعمة مما يسبب عُسراً في الهضم، فيسبب المرض.

النكتة الثالثة

قلنا في النكتة الثانية آنفاً: إنَّ القوة الذائقة تؤدي دور الحارس. نعم، هي كذلك عند الغافلين الذين لم يَسمُوا بعدُ روحياً والذين لم يتقدموا في مضمار الشكر والعروج في مدارجه. نعم إنه لا ينبغي اللجوء إلى الإسراف -كصرف عشرة أضعاف الثمن- لأجل تلذذ تلك الحاسة الحارسة. ولكن القوة الذائقة لدى الشاكرين حقاً ولدى أهل الحقيقة وأَهل القلوب وأُولي الأَبصار بمثابة راصدة وناظرة مفتشة لمطابخ الرحمة الإلهية (كما وضح ذلك في المقارنة المعقودة في الكلمة السادسة). وإن ما يتم في تلك القوة الذائقة من عملية تقدير قيمة النعم الإلهية ومن التعّرف عليها بأنواعها المختلفة بما فيها من موازين دقيقة حساسة عديدة بعدد الأطعمة، إنما هو لإبلاغ الجسد والمعدة، بما ينمّ عن شكر معنوي.

فلا تقتصر وظيفة القوة الذائقة على رعاية الجسد رعايةً مادية وحدَها، بل هي أَيضاً أَرقى حكماً من وظيفة المعدة وأَرفع منزلة منها، لما لها من رعاية للقلب والروح والعقل ومن عناية لكل منها، علماً أنها تستطيع أن تمضي في سبيل الحصول على لذتها -بشرط عدم الإسراف- إنجازاً لمهمة الشكر الخالص المقدّرة لها، وبنيّة التعرف والإطلاع على أَنواع النعم الإلهية بتذوقها والشعور بها بشرط مشروعيتها وعدم كونها وسيلة للتذلل والاستجداء، أي إننا نستطيع أن نستعمل ذلك اللسان الحامل للقوة الذائقة في الشكر لأجل التفضيل بين الأَطعمة اللذيذة.

وإليكم هذه الحادثة إشارة إلى هذه الحقيقة، وهي كرامة من كرامات الشيخ الكيلاني «قُدس سره»:

كان لعجوز رقيقة لطيفة ابنٌ وحيد يتربّى على يد الشيخ، دخلت تلك العجوز الموقرة ذات يوم على ابنها ورأت أنه يأكل من كِسرة خبز يابس أسمر مزاولاً رياضة روحية حتى ضعفَ ونحل جسمه. أَثارت هذه الحالة شفقة والدته الرؤوم ورقّت لحاله فذهبت لتشتكيه إلى الشيخ الكيلاني وإذا بها ترى الشيخ يأكل دجاجاً مشوياً. ولشدة رقتها ولطافتها قالت: أيها الشيخ إن ابني يكاد يموت جوعاً وها أنت ذا تأكل الدجاج! فخاطب الشيخ الدجاج قائلاً: «قم بإذن الله» فوثب ذلك الدجاج المطبوخ إلى خارج الوعاء بعد أَن اكتمل دجاجاً حياً بالتئام عظامه. لقد نقل هذا الخبر بالتواتر المعنوي ثقاتٌ كثيرون إظهاراً لكرامة واحدة من صاحب الكرامات المشهورة في العالم، الشيخ الكيلاني قُدس سرّه. ومما قاله الشيخ لتلك العجوز : متى ما بلغ ابنك هذه الدرجة.. فليأكل الدجاج هو الآخر.

فمغزى هذا الأمر الصادر من الشيخ الكيلاني هو: متى حَكمت روحُ ابنك جَسَدَهُ وهيمن قلبُه على نفسِه، وسادَ عقلُه معدتَه، والتمس اللذةَ لأجل الشكر.. عندئذ يمكنه أن يتناول ما لذّ وطاب من الأطعمة.

النكتة الرابعة

إنَّ المقتصد لا يعاني فاقةَ العائلة وعَوَزها كما هو مفهوم الحديث الشريف: (لَا يَعُولُ مَن اقتَصَد). أَجل هناك من الدلائل القاطعة التي لا يحصرها العدّ بأن الاقتصاد سببٌ جازم لإنزال البركة، وأساسٌ متين للعيش الأفضل. أذكر منها ما رأيته في نفسي وبشهادة الذين عاونوني في خدمتي وصادقوني بإخلاص فأقول:

لقد حصلتُ أحياناً وحصل أصدقائي على عشرة أضعاف من البركة بسبب الاقتصاد. حتى إنه قبل تسع سنوات عندما أصرّ عليّ قسمٌ من رؤساء العشائر المنفيين معي إلى «بوردور» على قبول زكاتهم كي يحولوا بيني وبين وقوعي في الذلة والحاجة لقلة ما كانت عندي من النقود، فقلت لأولئك الرؤساء الأثرياء: برغم أن نقودي قليلة جداً إلّا أنني أَملك الاقتصاد، وقد تعودتُ على القناعة، فأنا أَغنى منكم بكثير. فرفضتُ تكليفهم المتكرر الملحّ.. ومن الجدير بالملاحظة أن قسماً من أولئك الذين عرضوا عليّ زكاتهم قد غلبهم الدَّين بعد سنتين، لعدم التزامهم بالاقتصاد، إلّا أن تلك النقود الضئيلة قد كفتني -ولله الحمد- ببركة الاقتصاد إلى ما بعد سبع سنوات، فلم يُرَق مني ماء الوجه، ولم يدفعني لعرض حاجتي إلى الناس، ولم يفسد عليّ ما اتخذته دستوراً لحياتي وهو «الاستغناء عن الناس».

نعم إنَّ من لا يقتصد، مدعوّ للسقوط في مهاوي الذلّة، ومعرّضٌ للانزلاق إلى الاستجداء والهوان معنىً.

إنَّ المال الذي يُستعمل في الإسراف في زماننا هذا لهو مالٌ غالٍ وباهظ جداً، حيث تُدفع أحياناً الكرامةُ والشرف ثمناً ورشوة له، بل قد تُسلب المقدسات الدينية، ثم يُعطى نقوداً منحوسة مشؤومة، أي يقبض بضعة قروش من نقود مادية، على حساب مئات الليرات من النقود المعنوية. بينما لو اقتصر الإنسان على الحاجات الضرورية واختصرها وحصر همّه فيها، فسيجد رزقاً يكفُل عيشه من حيث لا يحتسب وذلك بمضمون الآية الكريمة: ﴿اِنَّ اللّٰهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَت۪ينُ﴾ (الذاريات: 58) وإن صراحة الآية الكريمة: ﴿وَمَا مِنْ دَٓابَّةٍ فِي الْاَرْضِ اِلَّا عَلَى اللّٰهِ رِزْقُهَا﴾ (هود:6) تتعهد بذلك تعهداً قاطعاً.

نعم، إن الرزق قسمان:

القسم الأول: وهو الرزق الحقيقي الذي تتوقف عليه حياة المرء، وهو تحت التعهد الرباني بحكم هذه الآية الكريمة، يستطيع المرءُ الحصولَ على ذلك الرزق الضروري مهما كانت الأحوال، إنْ لم يتدخل سوءُ اختيار البشر، دون أن يضطر إلى فداء دينه ولا التضحية بشرفه وعزته.

القسم الثاني: هو الرزق المجازي، فالذي يسيء استعماله لا يستطيع أن يتخلّى عن الحاجات غير الضرورية، التي غدت ضروريةً عنده نتيجة الابتلاء ببلاء التقليد. وثمن الحصول على هذا الرزق باهظ جداً ولاسيما في هذا الزمان، حيث لا يدخل ضمن التعهد الرباني، إذ قد يتقاضى ذلك المال لقاء تضحيته بعزته سلفاً راضياً بالذل، بل قد يصل به حد السقوط في هاوية الاستجداء المعنوي، والتنازل إلى تقبيل أقدام أناسٍ منحطين وضيعين، لا بل قد يحصل على ذلك المال المنحوس الممحوق بالتضحية بمقدساته الدينية التي هي نور حياته الخالدة. ثم إنَّ الألم الذي ينتاب ذوي الوجدان من حيث العاطفة الإنسانية -بما يرونه من آلام يقاسيها المحتاجون البائسون في هذا الزمان الذي خيّم عليه الفقرُ والحاجة- يشوّب لذتَهم التي يحصلونها بأموال غير مشروعة، وتزداد مرارتُها إن كانت لهم ضمائر. إنه ينبغي في هذا الزمان العجيب الاكتفاء بحدّ الضرورة في الأموال المريبة، لأنه حسب قاعدة «الضرورة تُقَدّر بقدرها» يمكن أن يؤخذ باضطرارٍ من المال الحرام حدُّ الضرورة وليس أكثر من ذلك. وليس للمضطر أن يأكل من الميتة إلى حدّ الشبع، بل له أن يأكل بمقدار ما يحول بينه وبين الموت. وكذا لا يؤكل الطعام بشراهة أمام مائة من الجائعين.

نورد هنا حادثة واقعية للدلالة على كون الاقتصاد سبب العزة والكمال:

أقام «حاتم الطائي» المشهور بكرمه وسخائه ضيافة عظيمة ذات يوم وأغدق هدايا ثمينة على ضيوفه. ثم خرج للتجوال في الصحراء، فرأى شيخاً فقيراً يحمل على ظهره حملاً ثقيلاً من الحطب والكلأ والشوك والدم يسيل من بعض جسمه.. فخاطبه قائلاً:

– أيها الشيخ، إنَّ حاتماً الطائي يقيم اليوم ضيافة كريمة ويوزع هدايا ثمينة، بادر إليه لعلك تنال منه أموالاً أضعاف أضعاف ما تناله من هذا الحمل!.

قال له ذلك الشيخ المقتصد: سأحمل حملي هذا بعزة نفسي وعرق جبيني، ولا أرضى أن أقع تحت طائل منّة حاتم الطائي.

ولما سُئل حاتم الطائي يوماً:

– مَنْ من الناس وجدتَهم أعزَّ منك وأكرم؟.

قال:  ذلك الشيخ المقتصد الذي لقيتُه في المفازة ذات يوم، لقد رأيتُه حقاً أعزّ مني وأكرم.