المذكِّرة السادسة

يا مَن يضطرب ويقلق من كثرة عدد الكفار، ويا مَن يتزلزل باتفاقهم على إنكار بعض حقائق الإيمان، اعلم أيها المسكين!

أولاً:  أنَّ القيمة والأهمية ليستا في وفرةِ الكمية وكثرةِ العدد، إذ الإنسان إن لم يكن إنساناً حقاً انقلب حيواناً شيطاناً، لأن الإنسان يكسب حيوانيةً هي أشدُّ من الحيوان نفسه كلما توغل في النوازع الحيوانية، كبعض الأجانب أو السائرين في ركابهم. فبينما ترى قلةَ عدد الإنسان قياساً إلى كثرة عدد الحيوانات إذا بك تراه قد أصبح سلطاناً وسيداً على جميع أنواعها، وصار خليفةً في الأرض.

فالكفار المنكِرون والذين يتّبعون خطواتهم في السفاهة، هم نوعٌ خبيث من أنواع الحيوانات التي خلَقَها الفاطر الحكيم سبحانه لعمارة الدنيا. وجعلهم «واحداً قياسياً» لمعرفة درجات النعمة التي أسبغها على عباده المؤمنين، وسوف يسلّمهم إلى جهنمَ وبئس المصير التي يستحقونها، حينما يرثُ الأرضَ ومَن عليها.

ثانياً:  ليس في إنكار الكفار والضالين لحقيقةٍ من الحقائق الإيمانية قوةٌ، ولا في نفيهم لها سندٌ، ولا في اتفاقهم أهمية ، لأنه نفيٌ. فأَلفٌ من النافين هم في حُكم نافٍ واحد فقط.

مثال ذلك:  إذا نَفى أهلُ استانبول جميعُهم رؤيتَهم للهلال في بداية رمضان المبارك، فإن إثبات اثنين من الشهود، يُسقِط قيمةَ اتفاق كل ذلك الجمع الغفير. فلا قيمة إذن في اتفاق الكفار الكثيرين ما دامت ماهيةُ الكفر والضلالة نفياً، وإنكاراً، وجهلاً، وعدماً. ومن هنا يُرجَّح حُكمُ مؤمنَين اثنين يستندان إلى الشهود في المسائل الإيمانية الثابتة إثباتاً قاطعاً على اتفاق ما لا يُحد من أهل الضلالة والإنكار ويتغلب عليهم.

وسرّ هذه الحقيقة هو ما يأتي:

إنَّ دعاوى النافين متعددة، برغم أنها تبدو واحدة في الظاهر، إذ لا يتّحد بعضُها مع البعض الآخر كي يعززه ويشدّ من عضده. بينما دعاوى المُثبتين تتحد وتتساند ويمدّ بعضُها البعض الآخر ويقّويه ويدعمه، فالذي لا يرى هلال رمضان في السماء يقول: إنَّ الهلال في نظري غير موجودٍ، وعندي غير موجود.. والآخر يقول مثلَه، فكلٌّ منهم ينفي من زاوية نظره، وليس من واقع الحال، ومن الأمر بذاته، لذا فاختلافُ نظرهم وتنوعُ الأسباب الداعية إلى حَجب الرؤية، وتعدد موانع النظر لدى الأشخاص، يجعل دعاواهم متباينة ومختلفة لا تسند إحداها الأخرى.

أما المثبتون فلا يقول أحدهم: الهلال موجود في نظري، أو عندي، بل يقول: إن الهلال موجود فعلاً، وهو في السماء بذاته.. والمشاهدون جميعاً يصدّقونه في دعواه هذه، ويؤيدونه في الأمر نفسه قائلين: الهلال موجود في واقع الحال.. أي إن جميع الدعاوى واحدة.

ولما كان نظرُ النافين مختلفاً، فقد أصبحت دعاواهم كذلك مختلفة، فلا يسري حُكمهم على الأمر بذاته، لأنه لا يمكن إثبات النفي في الحقيقة، إذ يلزم الإحاطةُ. ومن هنا صارت من القواعد الأصولية: أنَّ «العَدَم المطلق لا يُثبَتُ إلّا بمُشكلات عظيمة».

نعم، إذا قلت: إن شيئاً ما موجود في الدنيا، فيكفي لإثباته إراءته فقط. ولكن إنْ قلتَ: إنه معدومٌ، غير موجود في الدنيا. أي إذا نفيت وجوده، فينبغي لإثبات هذا النفي أو العدم أنْ تبحث عنه في أطراف الدنيا كافة وإراءتُه وإشهادُه.

وبناء على هذا السر: يتساوى في إنكار الكفار لحقيقةٍ واحدة الواحدُ مع الألف، لعدم وجود التساند فيه. يشبه ذلك، حلَّ مسألة ذهنية، أو المرورَ من ثقب، أو القفز من فوق الخندق، التي لا تساند فيها.

أما المثبتون فلأنهم ينظرون إلى الأمر نفسه، أي إلى واقع الحال، فإن دعاواهم تتحد وتتعاون ويمدُّ بعضُها البعض الآخر قوةً، بمثل التعاون الحاصل في رفع صخرةٍ عظيمة، فكلما تكاثرت الأيدي عليها، سهُل رفعُها أكثر، حيث يستمد كلٌ منهم القوة من الآخر.

المذكّرة السابعة

يا مَنْ يحثّ المسلمين ويشوّقهم على حُطام الدنيا ويسوقُهم قسراً إلى صنائع الأجانب والتمسك بأذيال رقيّهم. ويا مدّعي الحمية، أيها الشقي!. تمهّل، وتأمّل! واحذر من انقطاع عُرى الدين لبعض أفراد هذه الأمة وانفصام روابطهم معه، لأنه إذا انقطعت تلك الروابط لدى البعض تحت سطوة مطارق التقليد الأعمى والسلوك الأرعن، فسيكونون مُلحدين مضرّين بالمجتمع، مُفسدين للحياة الاجتماعية كالسمّ القاتل، إذ المرتد سمٌّ زعاف للمجتمع، حيث قد فسد وجدانُه وتعفنت طويتُه كلياً، ومن هنا ورد في علم الأصول: «المرتد لا حقّ له في الحياة، خلافاً للكافر الذميّ أو المعاهَدِ فإن له حقاً في الحياة» وأن شهادة الكافر من أهل الذمة مقبولةٌ عند الأحناف بينما الفاسقُ مردودُ الشهادة لأنه خائن.

أيها الفاسق الشقي! لا تَغْترّ بكثرة الفُسّاق، ولا تقل إن أفكار أكثرية الناس تساندني وتؤيدني، ذلك لأنه لم يدخل الفسقَ فاسقٌ برغبةٍ فيه وطلباً لذات الفسق، بل وقع فيه ولا يستطيع الخروج منه، إذ ما من فاسقٍ إلّا ويتمنى أن يكون تقياً صالحاً، وأن يكون رئيسه وآمرُه ذا دينٍ وصلاح، اللهم إلّا من أُشربَ قلبُه بالردّة – والعياذ بالله – فَفَسد وجدانه بها، وأَصبح يلتذ بلدغ الآخرين وإيذائهم كالحيّة.

أيها العقل الأَبله والقلب الفاسد! أتظنُّ أن المسلمين لا يرغبون في الدنيا، ولا يفكرون فيها، حتى أَصبحوا فقراءَ مُعْدَمين، فتراهم بحاجة إلى مَن يوُقظهم من رقدتهم كيلا ينسوا نصيبَهم من الدنيا؟

كلا.. إنَّ ظَنَّك خطأٌ.. بل لقد اشتدّ الحرصُ، فهم يقعون في قبضة الفقر وشِباك الحرمان نتيجة الحرص، إذ الحرص للمؤمن سببُ الخيبة وقائدُ الحرمان والسفالة. وقد ذهب مثلاً: الحريص خائبٌ خاسر .

نعم، إنَّ الأسباب الداعية إلى الدنيا كثيرة، والوسائل السائقة إليها وفيرة، وفي مقدمتها ما يحمله كلُّ إنسان من نفسٍ أَمَّارة بالسوء، وما يكمن فيه من هوىً وحاجة وحواس ومشاعر وشيطانٍ عدو، فضلاً عن أقران السوء -من أمثالك- وحلاوة العاجلة ولذّتها… وغيرها من الدعاة إليها كثير، بينما الدعاة إلى الآخرة وهي الخالدة والمرشدون إلى الحياة الأبدية قليلون.

فإن كان لديك ذرةٌ من الحَميّة والشّهامة تجاه هذه الأمة، وإن كنت صادقاً في دعواك إلى التضحية والفداء والإيثار، فعليك بمدّ يد المساعدة إلى أولئك القلّة من الداعين إلى الحياة الباقية. وإلّا فإن عاونتَ الكثرة، وكممتَ أفواه أولئك الدعاة القلة، فقد أَصبحتَ للشيطان قريناً. فساء قريناً.

أوَ تظن أن فقرَنا ناجمٌ من زُهد الدين أو من كسلٍ ناشئ من ترك الدنيا؟ إنك مخطئ في ظنك أَشدَّ الخطأ.. ألا ترى أن المجوس والبراهمة في الصين والهند والزنوج في أفريقيا وأمثالَهم من الشعوب المغلوبة على أمرها والواقعة تحت سطوة أوروبا، هم أَفقرُ منّا حالاً.

أوَ لا ترى أنه لا يبقى بأيدي المسلمين سوى ما يسدّ رَمَقَهم ويقيم أَوَدَهم حيث يغصبه كفارُ أوروبا الظالمون منهم أو يسرقه منافقو آسيا بما يحيكون من دسائس خبيثة.

إن كانت غايتكم من سَوق المؤمنين قسراً إلى المدنية التي هي الدنيّة (أي بلا ميم) تسهيلاً لإدارة دفّة النظام وبسط الأمن في ربوع المملكة، فاعلموا جيداً أنكم على خطأ جسيم، إذ تسوقون الأمة إلى هاوية طريق فاسد. لأن إدارةَ مائة من الفاسقين الفاسدين أخلاقياً والمرتابين في اعتقادهم وإيمانهم، وجعلَ الأمن والنظام يسود فيما بينهم لهو أصعبُ بكثير من إدارة ألوف من الصالحين المتقين ونشر الأمن فيما بينهم.

وبناءً على ما تقدم من الأسس فليس بالمسلمين حاجة إلى ترغيبهم وحثّهم على حبّ الدنيا والحرص عليها، فلا يحصل الرقي والتقدم ولا ينشر الأمن والنظام في ربوع البلاد بهذا الأسلوب، بل هم بحاجة إلى تنظيم مساعيهم، وبث الثقة فيما بينهم، وتسهيل وسائط التعاون فيما بينهم، ولا تتم هذه الأمور إلّا باتباع الأوامر المقدّسة في الدين، والثبات عليها، مع التزام التقوى من الله سبحانه وابتغاء مرضاته.

المذكِّرة الثامنة

يا مَن لا يدرك مدى اللذة والسعادة في السعي والعمل.. أَيها الكسلان! اعلم، أَنَّ الحق تبارك وتعالى قد أَدرج لكمالِ كرمه جزاءَ الخدمة في الخدمة نفسها، وأَدمج ثوابَ العمل في العمل نفسِهِ.

ولأَجل هذا كانت الموجودات قاطبة بما فيها الجمادات -من زاوية نظر معينة- تمتثل الأَوامر الربانية بشوق كامل، وبنوع من اللذة، عند أَدائها لوظائفها الخاصة بها والتي تطلق عليها «الأوامر التكوينية». فكل شيء ابتداءً من النحل والنمل والطير.. وانتهاء إلى الشمس والقمر، كلٌّ منها يسعى بلذةٍ تامة في أَ‌داء مهامِّها. أي اللذةُ كامنة في ثنايا وظائف الموجودات، حيث إنها تقوم بها على وجه من الإتقان التام، رغم أَنَّها لا تعقلُ ما تفعل ولا تدركُ نتائج ما تعمل.

فإن قلت:  إن وجودَ اللذة في الأَحياء ممكنٌ، ولكن كيف يكون الشوقُ واللذةُ موجودين في الجمادات؟.

فالجواب:  أنَّ الجمادات تطلب شَرَفاً ومقاماً وكمالاً وجمالاً وانتظاماً، بل تبحث عن كل ذلك وتفتش عنه لأجل إظهار الأَسماء الإلهية المتجلية فيها، لا لذاتها، لذا فهي تتنور وتترقى وتعلو أثناء امتثالها تلك الوظيفة الفطرية، حيث إنها تكون بمثابة مرايا ومَعاكس لتجليات أَسماء «نور الأنوار».

فمثلاً:  قطرةٌ من الماء -وقطعة من الزجاج- رغم أنها تافهةٌ وقاتمة في ذاتها، فإذا ما توجهت بقلبِها الصافي إلى الشمس، تتحول إلى نوعٍ من عرشٍ لتلك الشمس، فتلقاك بوجه مضيء!

وكذلك الذرات والموجودات -على غِرار هذا المثال- من حيث قيامها بوظيفة مرايا عاكسة لتجليات الأسماء الحسنى لذي الجلال والجمال والكمال المطلق، فإنها تسمو وتعلو إلى مرتبة من الظهور والجلاء والتنوّر هي غاية في العلو والسمو، إذ ترتفع تلك القطرةُ وتلك القطعة من حضيض الخمود والظلمة إلى ذروة الظهور والتنور. لذا يمكن القول: بأن الموجودات تقوم بأداء وظائفها في غاية اللذة والمتعة ما دامت تكتسب بها مرتبةً نورانية سامية، واللذة ممكنة إن كانت للموجود حصةٌ من الحياة العامة. وأظهرُ دليل على أن اللذة كامنةٌ في ثنايا الوظيفة نفسها هو ما يأتي:

تأمل في وظائف أعضائك وحواسّك، ترَ أن كلاً منها يجد لذائذَ متنوعة أثناء قيامه بمهامه -في سبيل بقاء الشخص أو النوع- فالخدمة نفسها، والوظيفةُ عينُها تكون بمثابة ضربٍ من التلذذ والمتعة بالنسبة لها، بل يكون تركُ الوظيفة والعمل عذاباً مؤلماً لذلك العضو.

وهناك دليل ظاهر آخر هو: أن الديك -مثلاً- يُؤْثِرُ الدجاجاتِ على نفسه، فيترك ما يلتقطه من حبوب رزقه إليهن دون أن يأكل منها. ويُشاهد أنه يقوم بهذه المهمة وهو في غاية الشوق وعزِّ الافتخار وذروة اللذة.. فهناك إذن لذةٌ في تلك الخدمة أعظم من لذة الأكل نفسِهِ. وكذا الحال مع الدجاجة -الراعية لأفراخها- فهي تُؤْثرُها على نفسها، إذ تدع نفسَها جائعةً في سبيل إشباع الصغار، بل تضحي بنفسها في سبيل الأفراخ، فتهاجم الكلب المُغير عليها لأجل الحفاظ على الصغار.

ففي الخدمة إذن لذةٌ تفوق كل شيء، حتى إنها تفوق مرارةَ الجوع وترجّح على ألم الموت. فالوالدات من الحيوانات تجد منتهى اللذة في حمايتها لصغارها طالما هي صغيرة. ولكن ما إن يكبر الصغيرُ حتى تنتهي مهمة الأم فتذهب اللذةُ أيضاً. وتبدأ الأم بضرب الذي كانت ترعاه، بل تأخذ الحَبّ منه.. هذه السُنّة الإلهية جاريةٌ في الحيوانات إلّا في الإنسان إذ تستمر مهمة الأم نوعاً ما، لأن شيئاً من الطفولة يظل في الإنسان حيث الضعفُ والعجز يلازمانه طوال حياته، فهو بحاجة إلى الشفقة والرأفة كل حين.

وهكذا، تأمل في جميع الذكور من الحيوانات كالديك، وجميع الوالدات منها كالدجاج، وافهم كيف أنها لا تقوم بتلك الوظيفة ولا تنجز أي شيء لأجل نفسها ولا لكمالها بالذات حيث تفدي نفسَها إذا احتاج الأمر. بل إنها تقوم بتلك المهمة في سبيل المُنعم الكريم الذي أَنعم عليها، وفي سبيل الفاطر الجليل الذي وظّفها في تلك الوظيفة فأَدرج برحمته الواسعة لذةً ضمن وظيفتها، ومتعةً ضمن خدمتها.

وهناك دليلٌ آخر على أن الأجرة داخلةٌ في العمل نفسه وهو أن النباتات والأشجار تمتثل أوامر فاطرها الجليل بما يُشعر أن فيها شوقاً ولذةً، لأن ما تنشره من روائح طيبة، وما تتزين به من زينة فاخرة تستهوي الأنظار، وما تقدمه من تضحيات وفداء حتى الرَمَق الأخير لأجل سنابلها وثمارها.. كل ذلك يعلن لأهل الفطنة: أنَّ النباتات تجد لذةً فائقة في امتثالها الأوامر بما يفوق أية لذة أخرى، حتى إنها تمحو نفسها وتهلكها لأجل تلك اللذة.. ألا ترى شجرة جوز الهند، وشجرة التين كيف تُطعم ثمرتَها لبناً خالصاً تطلبه من خزينة الرحمة الإلهية بلسان حالها وتتسلمه منها وتظل هي لا تُطعم نفسَها غير الطين. وشجرة الرمان تسقي ثمرتها شراباً صافياً، وَهبَها لها ربُّها، وهي ترضى قانعةً بشراب ماءٍ عكر. حتى إنك ترى ذلك في الحبوب كذلك، فهي تُظهر شوقاً هائلاً للتسنبل، بمثل اشتياق السجين إلى رحب الحياة.

ومن هذا السرّ الجاري في الكائنات المسمى بـ«سُنّة الله» ومن هذا الدستور العظيم، يكون العاطل الكسلانُ الطريح على فراش الراحة أَشقى حالاً وأضيقَ صدراً من الساعي المجدّ، ذلك لأن العاطل يكون شاكياً من عمره، يريد أن يمضي بسرعة في اللهو والمرح. بينما الساعي المجدّ شاكرٌ لله وحامدٌ له، لا يريد أن يمضي عمرَه سدىً. لذا أصبح دستوراً عاماً في الحياة: «المستريح العاطل شاكٍ من عمره والساعي المجدّ شاكرٌ». وذهب مثلاً: «الراحةُ مندمجة في الزحمة والزحمة مندمجة في الراحة».

نعم، إذا ما أُمعن النظر في الجمادات فإن السنة الإلهية المذكورة تظهر بوضوح؛ فالجمادات التي لم تتكشف استعداداتُها وباتت ناقصةً من هذه الناحية، تراها تسعى بشدة، وتبذل جهداً عظيماً لكي تنبسط وتنتقلَ من طور «القوة» الكامنة إلى طور «الفعل». وعندها يشاهد عليها ما يشير إلى أن في تلك الوظيفة الفطرية شوقاً، وفي ذلك التحول لذةً، جرياً بدستور سُنّة الله، فإن كانت لذلك الجامد حصة في الحياة العامة، فالشوق يعود إليه، وإلّا فهو يعود إلى الذي يمثل ذلك الجامد ويشرف عليه، بل يمكن أن يقال بناء على هذا السر: إن الماء اللطيف الرقراق ما إن يتسلم أمراً بالانجماد، حتى يمتثل ذلك الأمر بشدة وشوق إلى حدّ أنه يكسر الحديد ويحطّمه. فإذن عندما تبلّغ البرودةُ ودرجاتُ الانجماد أمراً ربانياً بالتوسع، إلى الماء الموجود داخل كرة حديدٍ مقفلة، فإن الماء يمتثل الأمر بشدة وشوق بحيث يحطّم كرة الحديد تلك، وينجمد.

وعلى هذا فقس جميعَ ما في الكون من سعي وحركة، ابتداءً من دوران الشموس في أفلاكها وانتهاءً إلى دوران الذرات -كالمولوي العاشق- ودوراتِها واهتزازاتها.. فلا تجد أحداً إلاّ ويجري على قانون القَدَر الإلهي، ويظهر إلى الوجود بالأمر التكويني الصادر من يد القدرة الإلهية والمتضمن العلمَ الإلهي وأمره وإرادته.. حتى إن كل ذرة، وكل موجود، وكل ذي حياة، إنما هو كالجندي في الجيش، له علاقات متباينة ووظائف مختلفة، وارتباطات متنوعة مع كل دائرة من دوائره. فالذرة الموجودة في عينيك -مثلاً- لها علاقة مع خلايا العين، ومع أَعصاب العين في الوجه، ومع الشرايين والأوردة في الجسم، وعلى أساس هذه العلاقات والروابط تُعَيَّنُ لها وظيفة، وعلى ضوئها تنتج فوائد ومصالح وهكذا..

فقس على هذا المنوال كل شيء في الوجود.

وعلى هذا الأساس فإن كلَّ شيء في الوجود يشهد على وجوب وجود القدير المطلق من جهتين:

الأولى:  قيامُه بوظائفَ تفوق طاقتَه المحدودة بآلاف المرات، مع أنه عاجزٌ عن ذلك، فيشهد بلسان عجزه إذن على وجود ذلك القدير المطلق.

الثانية:  توافقُ حركته مع الدساتير التي تكوّن نظامَ العالم، وانسجام عمله مع القوانين التي تديم توازن الموجودات، فيشهد -بهذا الانسجام والتوافق- على وجود ذلك العليم القدير. ذلك لأن جماداً كالذرة -أو حشرة كالنحلة- لا تستطيع أن تعرفَ النظام والموازنة اللذين هما من المسائل الدقيقة المهمة المسطورة في الكتاب المبين.. إذ أين الذرةُ والنحلة من قراءة ذلك الكتاب الذي هو في يدِ مَن يقول: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَٓاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ﴾ (الأنبياء:104) فلا يجرؤ أحدٌ أن يردّ هذه الشهادة للذرة إلّا مَن يتوهم بحماقة متناهية أنها تملك عيناً بصيرة تتمكن بها قراءة الحروف الدقيقة لذلك الكتاب المبين؟.

نعم، إنَّ الفاطر الحكيم يدرج دساتيرَ الكتاب المبين وأحكامه دَرجاً في غاية الجمال، ويُجملها في غاية الاختصار، ضمن لذةٍ خاصةٍ لذلك الشيء، وفي ثنايا حاجةٍ مخصوصة له. فإذا ما عمل الشيءَ وفق تلك اللذة الخاصة والحاجة المخصوصة، فإنه يمتثل -من حيث لا يشعر- أحكام ذلك الكتاب المبين.

فمثلاً: إن البعوضة في حين مولدها ومجيئها إلى الدنيا تنطلق من بيتها وتهاجم وجهَ الإنسان وتضربه بعصاها الطويلة وخرطومِها الدقيق وتفجّر به السائل الحيوي، وتمصّه مصاً، وهي في هذا الهجوم تُظهر براعة عسكرية فائقة..

تُرى مَن علّم هذا المخلوق الصغير الذي أتى حديثاً إلى الدنيا وليس له من تجربة سابقة، هذه المهارة البارعة، وهذه الفنون الحربية الدقيقة، وهذا الإتقان في التفجير، فمن أين اكتسب هذه المعرفة؟.. فأنا هذا السعيد المسكين اعترف بأني لو كنتُ بدلاً منه، لما كنت أتعلم تلك المهارة، وتلك الفنون العسكرية من كرّ وفرّ، وتلك الأمور الدقيقة في استخراج السائل الحيوي إلّا بعد تجارب طويلة، ودروس عديدة، ومدة مديدة.

فقس على البعوضة النحلَة الملهمة و العنكبوت والبلبلَ الناسج لعشه نسجاً بديعاً، بل يمكنك قياس النباتات على الحيوانات أيضاً.

نعم إن الجواد المطلق جلّ جلاله قد سلّم بيد كل فردٍ من الأحياء «بطاقة تذكرة» مكتوبةً بمداد اللذة وحبر الاحتياج، فأَودع سبحانه فيها منهاجَ أوامره التكوينية، وفهرس ما يقوم به الفردُ من وظائف.. فسبحانه من حكيم ذي جلال، كيف أَدرج ما يخصّ النحل من دساتير الكتاب المبين في تلك «التذكرة» الصغيرة وسطرَها في رأس النحلة، وجعل مفتاحها لذةً خاصة بالنحلة الدائبة، لتفتح به تلك «التذكرة» المودعة في دماغها وتقرأ منهاج عملها فيها وتدرك وظيفتها، وتسعى وتجدّ وفقها، وتبرز حكمةً من الحكم المكنونة في الآية الكريمة:

﴿وَاَوْحٰى رَبُّكَ اِلَى النَّحْلِ﴾ (النحل: 68)

فيا مَن يقرأ أو يسمع هذه المذكِّرة الثامنة! إنْ كنتَ قد فهمتها حقَّ الفهم فقد فهمت إذن سراً من أسرار: ﴿وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ (الأعراف:156).

وأدركت حقيقةً من حقائق: ﴿وَاِنْ مِنْ شَيْءٍ اِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِه۪﴾ (الإسراء:44)

وتوصلتَ إلى دستور من دساتير:

﴿اِنَّمَٓا اَمْرُهُٓ اِذَٓا اَرَادَ شَيْـًٔا اَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس:82)

وتعلمت مسألة لطيفة من مسائل:

﴿فَسُبْحَانَ الَّذ۪ي بِيَدِه۪ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَاِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ (يس:83)