الباب الثاني

في « الحَمْدُ لله.. » في هذا الباب تسع نقاط..

(حاشية) لما كان الشكر أهم أسس «رسائل النور» بعد التفكر، وأن أكثر مراتب الشكر والحمد وحقائقهما قد أُوضحت إيضاحاً كاملاً في أجزاء «رسائل النور»؛ لذا يذكر هنا بعض مراتب الحمد الذي يقابل نعمة الإيمان ذكراً مختصراً جداً، اكتفاءً بتلك المراتب المذكورة. فإن للحمد مراتب حسب مراتب نعمة الإيمان. 

النقطة الأولى:

الحَمْدُ لله عَلى نِعَمَةِ الإيمان المُزيلِ عَنَّا ظُلُمَاتِ الجِهَاتِ السِّتّ.

إذْ جِهةُ المَاضِي في حُكْمِ يَميننا مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَونِهَا مَزَاراً أكبَرَ. وبِنِعْمَةِ الإيمان تَزُولُ تِلكَ الظُّلْمَةُ وَيَنْكَشِفُ المَزَارُ الأكْبَرُ عَنْ مَجْلِسٍ مُنَوَّرٍ.

وَيَسَارُنَا الَّذي هُوَ الجِهَةُ المُسْتَقْبَلَةُ، مُظْلِمَةٌ وَمُوحِشَةٌ بِكَوْنِهَا قَبراً عَظيمَاً لَنَا. وبِنِعْمَةِ الإيمان تَنْكَشِفُ عَنْ جِنَانٍ مُزَيَّنَةٍ فيهَا ضِيافَاتٌ رَحْمَانيَّةٌ.

وَجِهَةُ الفَوقِ وَهُوَ عَالَمُ السَّمواتِ مُوحِشَةٌ مُدْهِشَةٌ بِنَظَر الفَلسَفَةِ. فَبِنِعْمَةِ الإيمان تتَكَشَّفُ تِلكَ الجِهَةُ عَنْ مَصابيِحَ مُتَبَسِّمَةٍ مُسَخَّرةٍ بِأمْرِ مَنْ زَيَّنَ وَجه السَّماءِ بِهَا يُسْتَأنَسُ بِهَا وَلا يُتَوَحَّشُ مِنْهَا.

وَجِهَةُ التَّحْتِ وَهيَ عَالَمُ الأرض مُوحِشَةٌ بِوَضْعيَّتِهَا في نَفْسِهَا بِنَظَرِ الفَلسَفَةِ الضَّالَّةِ. فَبِنعْمَةِ الإيمان تَتكَشَّفُ عَنْ سَفينَةٍ رَبَّانيَةٍ مُسَخَّرَةٍ وَمَشْحُونَةٍ بِأنْوَاعِ اللَّذَائِذِ والمَطْعُومَاتِ؛ قَدْ أركَبَهَا صَانِعُهَا نَوعَ البَشَرِ وَجِنسَ الحَيَوَانِ للسِّياحَةِ في أطْرَافِ مَملَكَةِ الرَّحْمنِ.

وَجِهَةُ الأمَامِ الَّذي يَتَوَجَّهُ إلى تِلكَ الجِهَةِ كُلُّ ذَوي الحَيَاةِ مُسْرِعَةً قَافِلَةً خَلفَ قَافِلَةٍ، تَغيبُ تِلكَ القَوافِلُ في ظُلُمَاتِ العَدَمِ بِلا رُجُوعٍ. وَبِنِعْمَةِ الإيمان تَتَكَشَّفُ تِلكَ السِياحَةُ عَنِ انتِقَالِ ذَوي الحيَاةِ مِنَ دَارِ الفَنَاءِ إلى دَارِ البَقاءِ، وَمِنْ مَكَانِ الخِدْمَةِ إلى مَوضِعِ أخْذِ الأُجْرَةِ، وَمِنْ مَحَلِّ الزَّحْمَةِ إلى مَقامِ الرَّحْمَةِ والاستِرَاحَةِ. وَأمَّا سُرعَةُ ذَوي الحَيَاةِ في أمْوَاجِ المَوتِ، فَلَيْسَتْ سُقوُطاً وَمُصيبَةً، بل هِيَ صُعُودٌ باشتِيِاقٍ وَتَسَارُعٌ إلى سَعادَاتِهِمْ.

وَجِهَةُ الخَلْفِ أيضاً مُظْلِمَةٌ مُوحِشَةٌ. فَكُلُّ ذي شُعُورٍ يَتَحيَّرُ مُتَرَدِّداً ومُستَفْسِراً بـ«مِنْ أينَ؟ إلى أينَ؟». فلأنَّ الغَفْلَةَ لا تُعْطي لهُ جَوَاباً، يَصيرُ التَرَدُّدُ والتَّحَيُّرُ ظُلُمَاتٍ في رُوحِهِ.. فَبِنِعْمَةِ الإيمان تَنْكَشِفُ تِلكَ الجِهَةُ عَنْ مَبْدَإِ الإنسان وَوَظيفَتِهِ، وَبِأنَّ السُّلطَانَ الأزَليَّ أرسَلَهُمْ مُوَظَفينَ إلى دَارِ الامْتِحَانِ..

فَمِنْ هذِه الحَقيقَةِ يَكوُنُ «الحَمْدُ» عَلى نِعْمَةِ الإيمان المُزيلِ للِظُّلُمَاتِ عَنْ هذِه الجِهَاتِ السِّتِّ أيضاً نِعْمَةً عَظيمَةً تَسْتَلْزِمُ «الحَمْدَ». إذ بـ«الحَمْدِ» يُفْهَمُ دَرَجَةُ هذِهِ النِّعْمَةِ وَلَذَّتُهَا. فَالحَمْدُ لله عَلى «الحَمْدُ لله في تَسَلسُلٍ يَتَسَلسَلُ في دَوْرٍ دَائرٍ بِلا نِهَايَةٍ».

النقطة الثانية

الحَمْدُ لله عَلى نِعْمَةِ الإيمان المُنَوِّرِ لَنَا الجِهَاتِ السِّتَّ. فَكما أن الإيمان بإزَالَتِهِ لِظُلُمَاتِ الجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ مِنْ جِهَةِ دَفْعِ البَلايا؛ كَذَلِكَ أنَّ الإيمان لِتَنْوِيرِهِ للِجِهَاتِ السِّتِّ نِعْمَةٌ عَظيِمَةٌ أخرى مِنْ جِهَةِ جَلْبِ المَنَافِعِ. فَالإنسَانُ لعلاقَتهِ بِجَامِعيَّةِ فِطْرَتِهِ بِمَا في الجِهَاتِ السِّتِّ مِنَ المَوجُودَاتِ. وَبِنِعْمَةِ الإيمان يُمْكِنُ لِلإنسَانِ اِسْتِفَادَةٌ مِنْ جَميعِ الجِهَاتِ السِّتِّ أينما يَتَوَجَّهُ. فَبِسِرِّ ﴿فَاَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّٰهِ (البقرة:115) تَتَنَوَّرُ لهُ تِلكَ الجِهَةُ بِمَسَافَتِهَا الطَّوِيلَةِ بِلَا حَدٍّ. حَتَّى كأَنَّ الإنسانَ المُؤْمِنَ لَهُ عُمْرٌ مَعْنَوِيٌّ يَمْتَدُّ مِنْ أوَلِ الدُّنيَا إلى آخِرِهَا، يَسْتَمِدُّ ذَلِكَ العُمْرُ من نُور حَيَاةٍ مُمْتَدَّةٍ من الأزَلِ إلى الأبَدِ. وحتى إنَّ الإنسانَ بسِرّ تَنْويرِ الإيمانِ لِجِهَاتِهِ يَخْرُجُ عَنْ مَضِيقِ الزَّمَانِ الحَاضِرِ وَالمَكَانِ الضَّيِّقِ إلى سَاحَةِ وُسْعَةِ العَالَم، ويَصيرُ العَالَمُ كَبَيتِهِ، والمَاضِي وَالمُسْتَقْبَلُ زَمَانَاً حَاضِراً لِرُوحِهِ وَقَلْبِهِ. وَهَكَذا فَقِسْ…

النقطة الثالثة

الحَمْدُ لله عَلى الإيمان الحَاوي لِنُقطَتَي الاسْتِنَاد وَالاسْتِمْدَادِ.

نَعَمْ، بِسِرِّ غَايَةِ عَجْزِ البَشَرِ وَكَثرَةِ أعْدَائِهِ يَحتَاجُ البَشَرُ أشَدَّ احتِيَاجٍ إلى نُقطَةِ اسْتِنَادٍ يَلْتَجِئُ إليها لِدَفْعِ أعْدائِهِ الغَيْرِ المَحْدُودَةِ، وَبِغايَةِ فَقْرِ الإنسان مَعَ غَايَةِ كَثرَةِ حاجَاتِهِ وَآمَالِهِ يَحْتَاجُ أشَدَّ احتِيَاجٍ إلى نُقطَةِ اسْتِمدَادٍ يَستَمِدُّ مِنْهَا، وَيَسْألُ حَاجَاتِهِ بِهَا.

فَالإيمَانُ بالله هُوَ نُقطَةُ اسْتِنَادٍ لِفِطرَةِ البَشَرِ. وَالإيمَانُ بِالآخِرَةِ هُوَ نُقطَةُ اِسْتِمدَادٍ لِوِجْدَانِهِ. فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْ هَاتَينِ النُّقطَتَينِ يَتَوَحَّشُ عَلَيهِ قَلبُهُ وَرُوحُهُ، وَيُعَذِّبُهُ وِجدَانُهُ دائِماً. وَمَنْ اسْتَنَدَ بالإيمَانِ إلى النُقطَةِ الأولى، وَاسْتَمَدَّ مِنَ النُقطَةِ الثَّانِيَة أحسَّ مِنْ أعماق رُوحِهِ لَذَائِذَ مَعْنَويَّةً وَأُنْسِيَةً مُسَلّيَةً وَاعْتِمَاداً يَطْمَئِنُّ بِهَا وِجْدَانُهُ.

النقطة الرابعة

الحَمْدُ لله عَلى نُورِ الإيمان المُزيلِ للآلامِ عَنِ اللَّذَائِذِ المَشْرُوعَةِ بِإراءَةِ دَوَرَانِ الأمْثَالِ، وَالمُدِيمِ للنِّعَم بِإراءَةِ شَجَرَةِ الإنْعَامِ، وَالمُزيلِ آلام الفِرَاقِ بإراءةِ لَذَّةِ تَجَدُّدِ الأمثَالِ. يَعْنِي أنَّ في كُلِّ لَذَّةٍ آلاماً تَنشَأ مِنْ زَوَالِهَا. فَبِنُورِ الإيمان يَزُولُ الزَّوَالُ، وَيَنقَلِبُ إلى تَجَدُّدِ الأمثَالِ. وَفي التَّجَدُّدِ لَذَّةٌ أُخرى..

فَكمَا أَن الثَّمَرَةَ إذا لَمْ تُعْرَفْ شَجَرَتُهَا تَنْحَصِرُ النِّعْمَةُ في تِلكَ الثَّمَرَةِ. فَتَزُولُ بِأكْلِهَا. وَتُورِثُ تَأسُّفاً عَلى فَقْدِهَا. وإذا عُرِفَتْ شَجَرَتُها وَشُوهِدَتْ، يَزُولُ الألَمُ في زَوَالِهَا لِبَقَاءِ شَجَرَتِهَا الحَاضِرَةِ، وَتَبْديلِ الثَّمَرَةِ الفَانِيَةِ بِأمْثَالِهَا. وَكَذَا إنَّ مِنْ أشَدِّ حَالاتِ رُوحِ البَشَرِ هِيَ التَّألُّمَاتُ النَّاشِئَةُ مِنَ الفِرَاقَاتِ. فَبِنُورِ الإيمان تَفتَرِقُ الفِرَاقَاتُ وَتَنْعَدِمُ. بَل تَنْقَلِبُ بِتَجَدُّدِ الأمثَالِ الَّذي فيهِ لذَّةٌ أخرى إذ «كُلُّ جَدَيدٍ لَذِيذٌ»…

النقطة الخامسة

الحَمْدُ لله عَلى نُورِ الإيمان الَّذي يُصَوِّرُ مَا يُتَوَهَّمُ أعداء وَأجَانِبَ وَامْوَاتاً مُوحِشينَ، وَأيْتَاماً باكين مِنَ المَوجُودَاتِ، أحْبَاباً وإخْوَاناً وَأحْيَاءً مُؤنِسِينَ، وَعِبَاداً مُسَبِّحينَ ذَاكِرِينَ..

يَعْني أنَّ نَظَرَ الغَفلَةِ يَرى مَوجُودَاتِ العَالَمِ مُضِرِّينَ كَالأعْداءِ وَيَتَوَحَّشُ مِنْ كُلِّ شىءٍ، وَيَرَى الأشياء كَالأجانِبِ. إذ في نَظَرِ الضَّلالَةِ تَنْقَطِعُ عَلاقَةُ الاُخُوَّةِ في كُلِّ الأزمِنَةِ المَاضِيَةِ وَالاسْتِقْبَاليَّةِ. وَمَا اُخُوَّتُهُ وَعَلاقَتُهُ إلّا في زَمَانٍ حَاضِرٍ صَغيرٍ قَلِيلٍ. فَاُخُوَّةُ أهلِ الضَّلالَة كَدَقيَقةٍ في أُلُوفِ سَنَةٍ مِنَ الأجْنَبِيَّةِ. وَاُخُوَّةُ أهلِ الإيمان تَمتَدُّ مِنْ مَبْدَإِ المَاضِي إلى مُنتهَى الاسْتِقبَالِ. وَإِنَّ نظَرَ الضَّلالَةِ يَرى أجْرَامَ الكائِنَاتِ أمْوَاتاً مُوحِشينَ. وَنَظَرَ الإيمان يُشَاهِدُ أولئك الأجرامَ أحْياءً مُؤنِسينَ يَتَكَلَّمُ كُلُّ جرْمٍ بِلِسَانِ حالِهِ بِتَسْبيحَاتِ فاطِرِهِ. فَلَها رُوحٌ وحَيَاةٌ مِنْ هذِهِ الجِهَةِ. فَلا تَكُونُ مُوحِشَةً مُدْهِشَةً، بلْ أنيسَةً مُؤنِسةً. وَإِنَّ نَظَرَ الضَّلالَةِ يَرَى ذَوي الحَيَاةِ العَاجِزينَ عَنْ مَطَالِبِهمْ لَيسَ لَهُمْ حَامٍ مُتَوَدِّدٌ وَصَاحِبٌ مُتَعَهِّدٌ. كَأنَّهُمْ أيتَامٌ يَبكُونَ مِنْ عَجْزِهِمْ وَحُزْنِهِمْ وَيَأسِهِمْ. وَنَظَرُ الإيمان يَقُولُ: إنَّ ذَوي الحَيَاةِ لَيسُوا أيتَاماً بَاكينَ، بَل هُمْ عِبَادٌ مُكَلَّفُونَ وَمَأمُورونَ مُوَظَّفُونَ وَذَاكرونَ مُسَبِّحُونَ.

النقطة السادسة

الحَمْدُ لله عَلى نُورِ الإيمان المُصَوِّرِ للدَّارَينِ كَسُفرَتَينِ مَمْلُوءتَينِ مِنَ النِّعَمِ يَستَفِيدُ مِنْهُمَا المُؤمِنُ بيَدِ الإيمان بأنوَاعِ حَوَاسِّهِ الظَاهِرةِ وَالبَاطِنَةِ، وَأقسَامِِ لَطَائِفِهِ المَعنَويَةِ وَالرُوحِيَةِ المُنْكَشِفَةِ بِضِيَاءِ الإيمَانِ.

نَعَمْ، إنَّ في نَظَرِ الضَّلالَةِ تتَصَاغَرُ دائِرَةُ اسْتِفَادَةِ ذَوي الحَيَاة إلى دائِرَةِ لَذَائِذهِ الْمَادِّيَّةِ المُنَغَّصَةِ بِزَوَالِهَا. وَبِنُورِ الإيمان تتَوَسَّعُ دَائِرَةُ الاسْتِفَادَةِ إلى دائِرَةٍ تُحيطُ بِالسَّمَاواتِ وَالأرضِ بَلْ بِالدُّنيَا وَالآخِرَةِ. فَالمُؤمِنُ يَرى الشَّمسَ كَسِراجٍ في بَيْتِهِ وَرَفيقاً في وَظيفَتِهِ وأنيِساً في سَفَرِهِ؛ وَتَكُونُ الشَّمْسُ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِهِ. وَمَنْ تَكُونُ الشَّمْسُ نِعْمَةً لَهُ؛ تَكُونُ دائِرَةُ استِفَادَتِهِ وَسُفرَةُ نِعْمَتِهِ أوسَعَ مِنَ السَّمَاواتِ.

فَالقُرآنُ المُعْجِزُ البَيَانِ بِأمثَالِ ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ(إبراهيم:33) و﴿سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْاَرْضِ(الحج:65) يُشيِرُ ببَلاغَتِهِ إلى هذِهِ الإحسانَاتِ الخَارِقَةِ النَاشِئَةِ مِنَ الإيمَانِ.

النقطة السابعة

الحَمْدُ لله عَلى الله. فَوُجُودُ الوَاجِبِ الوُجوُدِ نِعْمَةٌ لَيسَتْ فَوقَهَا نِعْمَةٌ لِكُلِّ أحدٍ ولِكُلِّ مَوجُودٍ. وهذِهِ النِّعْمَةُ تَتََضَمَّنُ أنواعَ نِعَمٍ لا نِهَايَةَ لَهَا، وَأجْنَاسَ إحْسَانَاتٍ لا غَايَةَ لَهَا، وأصْنَافَ عَطيَّاتٍ لا حَدَّ لَهَا.

قد أُشير إلى قسم منها في أجزاء «رسائل النور» وبالخاصة «في الموقف الثالث من الرسالة الثانية والثلاثين». وكل الرسائل الباحثة عن الإيمان بالله من أجزاء «رسائل النور» تكشف الحجاب عن وجه هذه النعمة. فاكتفاءً بها نقتصر هنا.

الحَمْدُ لله عَلى رَحْمَانِيَّتِهِ تَعَالى التي تَتَضَمَّنُ نِعَمَاً بِعَدَدِ مَنْ تَعَلَّقَ بِهِ الرَّحْمَةُ مِنْ ذَوي الحَياة. إذ في فِطرَةِ الإنسان بِسِرِّ جَامِعيَّتِهِ عَلاقَاتٌ بِكُلِّ ذَوي الحَيَاة تَحصُلُ لَهُ سَعَادَةٌ مَعْنَويَّةٌ بِسَبَبِ سَعَادَاتِهِمْ. وَفي فِطرَتِهِ تَأثُّرٌ بِآلامِهِمْ. فَالنِّعْمَةُ عَليهِم تَكُونُ نَوعَ نِعْمَةٍ لِذَلِكَ الإنسَانِ.

والحَمْدُ لله عَلى رَحِيمِيَّتِهِ تَعَالى بِعَدَدِ الأطفال المُنْعَمِ عَلَيهِمْ بِشَفَقاتِ والِدَاتِهِمْ. إذ كما أن كُلَّ مَنْ لَهُ فِطرَةٌ سَليمَةٌ يَتَألَّمُ وَيَتَوَجَّعُ مِنْ بُكَاءِ طِفلٍ جَائِـع لا وَالِدَةَ لَهُ؛ كذَلِكَ يَتَنَعَّمُ بِتَعَطُّفِ الوَالِداتِ عَلى أطفَالِهَا.

الحَمْدُ لله عَلى حَكيِميَّتِهِ تَعَالى بِعَدَدِ دقَائِقِ جَميعِ أنواعِ حِكمَته في الكائنَاتِ. إذ كمَا تَتَنَعَّمُ نَفْسُ الإنسان بِجَلَوَاتِ رَحْمانِيَّتِهِ، وَيَتَنَعَّمُ قَلبُ الإنسان بِتَجَلِّيَاتِ رَحِيميَّتهِ؛ كَذَلِكَ يَتَلَذَّذُ عَقلُ الإنسان بِلَطَائفِ حِكمَتِهِ.

الحَمْدُ لله عَلى حَفيِظيَّتِهِ تَعَالى بِعَدَدِ تَجَلِّيَاتِ اسمِهِ «الوَارِثِ»، وَبِعَدَدِ جَميعِ مَا بَقيَ بَعدَ فَوَاتِ أُصُولِهَا وَآبآئهَا وَصَواحِبِهَا، وَبِعَدَدِ مَوجُودَاتِ دَارِ الآخِرَةِ، وبِعَدَدِ آمَالِ البَشَرِ المَحْفُوظَةِ لأجل المُكافأةِ الأُخرَويَّةِ. إذ دَوَامُ النِّعْمَةِ أعظمُ نعمَةً مِنْ نَفسِ النِّعْمَةِ؛ وَبَقَاءُ اللَّذَّةِ لَذَّةٌ أعلى لَذَّةً مِنْ نَفسِ اللَّذَّةِ؛ والخُلودُ في الجَنَّةِ نِعْمَةٌ فَوْقَ نَفْسِ الْجَنَّةِ. وهَكَذا.

فَحَفِيظِيَّتُهُ تَعَالى تَتَضَمَّنُ نِعَماً أكثر وَأزيَدَ وَأعلى مِنْ جَميعِ النِّعَمِ عَلى المَوجُوداتِ في جَميعِ الكائِنَاتِ.

وهكَذا، فَقِسْ عَلى اسمِ «الرَّحمن والرَّحيمِ وَالحَكِيمِ وَالحَفيِظِ» سائِرَ أسمائه الحُسْنى.

فالحَمْدُ لله عَلى كُلِّ اسمٍ مِنْ أسمائه تَعَالى حَمداً بِلا نِهايَةٍ.لِمَا أنَّ في كُلِّ اسمٍ منها نِعَمَاً بِلا نِهَايَةٍ.

الحَمْدُ لله عَلى القُرآنِ الَّذي هُوَ تَرْجُمَانٌ لكُلِّ مَا مَضى مِنْ جَميعِ الإنْعَامَاتِ الَّتي لا نِهَايَةَ لَهَا حَمْداً بلا نِهَايَةٍ.

الحَمْدُ لله عَلى مُحَمَّدٍ عَليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ حَمْداً بِلا نِهَايَة. إذ هُوَ الوَسيلَةُ للإيمَانِ الَّذي فيهِ جَميعُ المَفَاتِيحِ لِجَميعِ خَزَائِنِ النِّعَمِ التي أشَرْنَا إليها في هذَا البَابِ الثَّاني آنفاً.

الحَمْدُ لله عَلى نِعْمَةِ الإسلامية الَّتي هيَ مَرضيَّاتُ رَبِّ العَالَمينَ، وفِهرِسْتَةٌ لأنْوَاعِ نِعَمِهِ المَادِّيَّةِ وَالمَعْنَويَّةِ، حَمْداً بِلا نِهَايَةٍ.

النقطة الثامنة

الحَمْدُ لله الَّذي يَحْمَدُ لَهُ وَيُثنِي عَلَيهِ بِإظهَارِ أوصَافِ جَمَالِهِ وَكَمَالِهِ، هذَا الكِتَابُ الكَبيرُ المُسَمّى بـ«الكائِنَاتِ» بجَميعِ أبوَابِهِ وَفُصُولِهَا، وبِجَميع صَحائِفِهِ وَسُطُورِها، وَبِجَميع كَلِمَاتِهِ وَحُرُوفِها، كُلٌّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ يَحْمَدُهُ تَعَالى وَيُسَبِّحُهُ بِإظهَارِ بَوَارقِ أوصَافِ جَلالِ نَقَّاشِهِ الأحَدِ الصَّمَدِ بِمَظهَرِيَّةِ كُلٍّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِِ لأضْوَاءِ أوْصَافِ جَمَالِ كَاتِبِهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَبِمَظْهَرِيَّةِ كُلٍّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأنوارِ أوْصَافِ كمالِ مُنْشِئها ومُنْشدها القَديرِ العليمِ العَزيزِ الحَكِيمِ، وَبِمِرآتيَّة كلٍّ بِقَدَرِ نِسْبَتِهِ لأشِعَّةِ تَجَلِّيَاتِ أسْماءِ مَنْ لَهُ الأسماء الحُسنى. جَلَّ جَلالُهُ ولا إلهَ إلّا هُوَ.

النقطة التاسعة

الحَمْدُ -مِنَ الله بالله عَلى الله- لله بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ الكائِنَاتِ مِنْ أوَّلِ الدُّنيَا إلى آخِرِ الخِلقَةِ في عَاشِرَاتِ دَقائِقِ الأزمِنَةِ مِنَ الأزَلِ إلى الأبَدِ.

الحَمْدُ لله عَلى «الحَمْدُ لله» بِدَورٍ دائِرٍ في تَسَلسُلٍ يَتَسَلسَلُ إلى مَا لا يَتَنَاهى.

(حاشية) الدور والتسلسل محالان في دائرة الممكنات. لأنهما يقتضيان عدم التناهي، ودائرة الممكنات متناهية فلا تسع غير المتناهي. أما الحمد المتعلق بدائرة الوجوب فهو غير متناهٍ. فيدخل بالدور والتسلسل في دائرة غير متناهية فيتمكن فيها وتسعه.

الحَمْدُ لله عَلى نِعْمَةِ القُرآنِ وَالإيمَانِ عَلَيَّ وَعَلى إخواني بِعَدَدِ ضَرْبِ ذَرَّاتِ وُجودِي في عَاشِرَاتِ دَقَائقِ عُمْري في الدُّنيَا، وَبَقَائِي وبَقائِهِمْ في الآخِرَةِ.

 ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ

 ﴿الْحَمْدُ لِلّٰهِ الَّذي هَدٰينَا لِهٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَٓا اَنْ هَدٰينَا اللّٰهُ لَقَدْ جَٓاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ

اللّهمَّ صَلِّ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ بِعَدَدِ حَسَنَاتِ أُمَّتِهِ وَعَلى آلهِ وَصَحْبِهِ وسَلِّمْ آمينَ. وَالحَمْدُ لله ربِّ العَالَمِين.