«رسالة الطبيعة»

كانت هذه الرسالة هي المذكّرة السادسة عشرة من «اللمعة السابعة عشرة» إلّا أن أهميتها الفائقة جعلَتها «اللمعة الثالثة والعشرين» فهي تُبيد تيار الكفر النابع من مفهوم «الطبيعة» إبادة تامة وتُفتّت حجر زاوية الكفر وتحطّم ركيزته الأساس.

تنبيه

لقد بيَّنَت هذه المذكرة ماهيةَ المذهب الذي يسلكه الجاحدون من الطبيعيين، وأوضحَت مدى بُعد مسلكهم عن موازين العقل، ومدى سماجته وخرافيته، وذلك من خلال تسعة محالات مستخلَصة من تسعين محالاً في الأقل. ولما كان قسمٌ من تلك المحالات قد وضّح في رسائل أخرى فقد جاء هنا مدرجاً ضمن محالات أخرى، أو جاء مختصراً بعضَ الشيء.

والسؤال الذي يرد للخاطر هو: كيف ارتضى فلاسفةٌ مشهورون وعلماء معروفون بهذه الخرافة الفاضحة وسلّموا لها زمام عقولهم؟!

والجواب:  إنَّ أولئك لم يتبينوا حقيقةَ مسلكهم، (حاشية) إنَّ الداعي الأشد إلحاحاً إلى تأليف هذه الرسالة هو ما لمسته من هجوم صارخ على القرآن الكريم، والتجاوز الشنيع على الحقائق الإيمانية بتزييفها، وربط أواصر الإلحاد بالطبيعة، وإلصاق نعت «الخرافة» على كل ما لا تدركه عقولهم القاصرة العفنة… وقد أثار هذا الهجوم غيظاً شديداً في القلب ففجر فيه حمماً سرت إلى أسلوب الرسالة، فأنزلت هذه الحمم والصفعات على أولئك الملحدين وذوي المذاهب الباطلة المعرضين عن الحق، وإلّا فليس من دأب «رسائل النور» إلّا القول الليّن في الخطاب والرفق في الكلام. ولا باطنَ مذهبهم، ولم يدركوا ما يقتضيه مسلكهم من «محالات» وما يستلزمه مذهبهم من أمور فاسدة وممتنعة عقلاً، والتي ذكرت في بداية كل محال يرد في هذه الرسالة.

وأنا على استعداد كامل لإقامة البراهين الدامغة ونصب الحجج البديهية الواضحة لإثبات ذلك لكل مَن يساوره الشك، وأبينها لهم بإسهاب وتفصيل.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ اَفِي اللّٰهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ﴾ (إبراهيم: 10).

هذه الآية الكريمة بما فيها من استفهام إنكاري تدل دلالة قاطعة على وجود الله ووحدانيته بوضوح وجلاء بدرجة البداهة.

وقبل أن نوضح هذا السرّ نودّ أن ننبه إلى ما يأتي:

دعيتُ لزيارة «أنقرة» سنة 1338(1922م) وشاهدت فرح المؤمنين وابتهاجهم باندحار اليونان أمام الجيش الإسلامي، إلّا أنني أبصرتُ -خلال موجة الفرح هذه- زندقةً رهيبة تدبّ بخبثٍ ومكرٍ، وتتسلل بمفاهيمها الفاسدة إلى عقائد أهل الإيمان الراسخة بغية إفسادها وتسميمها.. فتأسفتُ من أعماق روحي، وصرختُ مستغيثاً بالله العلي القدير ومعتصماً بسُور هذه الآية الكريمة، من هذا الغول الرهيب الذي يريد أن يتعرض لأركان الإيمان، فكتبتُ برهاناً قوياً حاداً يقطع رأس تلك الزندقة، في رسالة باللغة العربية واستقيت معانيها وأفكارها من نور هذه الآية الكريمة لإثبات بداهة وجود الله سبحانه ووضوح وحدانيته، وقد طبعتها في مطبعة «يَني كون» في أنقرة.. إلّا أنني لم ألمس آثار البرهان الرصين في مقاومة الزندقة وإيقاف زحفها إلى أذهان الناس. وسبب ذلك كونه مختصراً ومجملاً جداً، فضلاً عن قلة الذين يُتقنون العربية في تركيا وندرة المهتمين بها آنذاك، لذا فقد انتشرت أوهامُ ذلك الإلحاد واستشرت في صفوف الناس مع الأسف الشديد، مما اضطرني إلى إعادة كتابة تلك الرسالة ببراهينها بالتركية، مع شيء من البيان والتوضيح فكانت هذه الرسالة.

ولما كان بعض أقسام تلك البراهين قد وضّحت توضيحاً كافياً في بعض «رسائل النور» فسنذكرها هنا مجملة، كما أن البعض من البراهين الأخرى المبثوثة في ثنايا رسائل أخرى تبدو مندرجةً في هذه الرسالة، وكأن كل برهان منها جزء من هذه الرسالة.

المقدمة

أيها الإنسان!

اعلم أن هناك كلماتٍ رهيبة تفوح منها رائحةُ الكفر النتنة، تخرج من أفواه الناس، وترددها ألسنةُ أهل الإيمان دون علمهم بخطورة معنى ما يقولون، وسنبين ثلاثاً منها هي الغاية في الخطورة:

أولاها: قولهم عن الشيء: «أوجدته الأسباب» أي إن الأسباب هي التي توجِدُ الشيء المعين.

ثانيتها: قولهم عن الشيء: «تشكّل بنفسه» أي إن الشيء يتشكل من تلقاء نفسه، ويوجِد نفسَهُ، بنفسه وينتهي إلى صورته التي انتهى إليها كما هي.

ثالثتها: قولهم عن الشيء: «اقتضته الطبيعة» أي إن الشيء طبيعي، والطبيعة هي التي أوجدته واقتضته.

نعم، مادامت الموجوداتُ موجودةً وقائمة أمامنا بما لا يمكن إنكارها مطلقاً، وأن كل موجود يأتي إلى الوجود في غاية الإتقان والحكمة، وهو ليس بقديم أزلي، بل هو محدَث جديد.

فيا أيها الملحد! إما أنك تقول أن هذا الموجود -وليكن هذا الحيوان مثلاً- توجِده أسبابُ العالم، أي إنه يكتسب الوجود نتيجة اجتماع الأسباب المادية، أو إنه تشكّل بنفسه، أو أنه يرد إلى الوجود بمقتضى الطبيعة ويظهر بتأثيرها! أو عليك أن تقول:

إنَّ قدرة الخالق القدير ذي الجلال هي التي توجِده؛ لأنه لا سبيل إلى حدوثه غير هذه الطرق الأربعة، حسب موازين العقل، فإذا ما أُثبت -إثباتاً قاطعاً- أن الطرق الثلاثة الأولى محالةٌ، باطلة ممتنعة، غير ممكنة، فبالضرورة والبداهة يثبت الطريقُ الرابع، وهو طريق وحدانية الخالق بيقين جازم لا ريب فيه.

أما الطريق الأول:

وهو القول بأن: «اجتماع أسبابِ العالم يخلق الموجودات ويوجدُها، ويؤدي إلى تشكيل الأشياء» نذكر منه ثلاثة محالات فقط، من بين محالاته الكثيرة جداً.

المحال الأول:  ولنوضحه بهذا المثال:

تحوي الصيدلية مئات الدوارق والقناني المملوءة بموادَّ كيمياوية متنوعة، وقد احتجنا -لسبب ما- إلى معجون حيوي من تلك الأدوية والمواد لتركيب مادة حيوية خارقة مضادة للسموم.. فلما دخلنا الصيدلية وجدنا فيها أعداداً هائلة من أنواع ذلك المعجون الحيوي، ومن تلك المادة الحيوية المضادة للسموم، وعندما بدأنا بتحليل كل معجون رأيناه مركباً مستحضراً بدقة متناهية من موادَّ مختلفة طبق موازين محسوبة، فقد أُخذ من تلك القناني درهم (غرام واحد) من هذه.. وثلاثة غرامات من تلك.. وعشرة غرامات من الأخرى.. وهكذا فقد أُخِذَ من كل منها مقاديرُ مختلفة، بحيث لو كان ما أُخِذَ من هذه المقادير أقل منها بجزء من الغرام، أو أزيد، لفَقد المعجون خواصه الحيوية…

والآن جئنا إلى «المادة الحيوية المضادة للسموم» ودققنا فيها نظراً كيمياوياً، فرأيناها قد ركّبت بمقادير معينة أُخذت من تلك القناني على وفْق موازين حساسة بحيث إنها تفقد خاصيتها لو غلطنا في الحساب فزادت المواد المركبة منها أو نقصت بمقدار ذرة واحدة.

نخلص من هذا:  أنَّ المواد المتنوعة قد استُحضرت بمقادير مختلفة، على وفق موازين دقيقة. فهل يمكن أو يُعقل أن يتكون ذلك المعجونُ المحسوب كلُّ جزء من أجزائه حساباً دقيقاً من جرّاء مصادفة غريبة، أو من نتيجة تصادم القناني بحدوث زلزالٍ عاصف في الصيدلية يؤدي إلى سيلان تلك المقادير بموازينها المعينة، واتحادها بعضها بالبعض الآخر مكوناً معجوناً حيوياً؟!. فهل هناك محالٌ أغرب من هذا وأكثر بعداً عن العقل والمنطق؟! وهل هناك خرافة أخرق منها؟! وهل هناك باطل أوضح بطلاناً من هذا؟! والحمار نفسه لو تضاعفت حماقته ونطق لقال: يا لحماقة مَن يقول بهذا القول!.

وفي ضوء هذا المثال نقول: إنَّ كل كائن حي هو مركبٌ حيوي، ومعجون ذو حياة. وإن كل نبات شبيه بترياق حيوي مضاد للسموم إذ ركّب من أجزاء مختلفة ومن مواد متباينة، على وفق موازين دقيقة في منتهى الحساسية.. فلا ريب أنَّ إسناد خلقِ هذا الكائن البديع إلى الأسباب المادية والعناصر، والقول بأن «الأسباب أوجدَته» باطلٌ ومحالٌ وبعيد عن موازين العقل بمثل بُعدِ وبطلان ومحالية تكوّن المعجون الحيوي بنفسه من سيلان تلك المواد من القناني.

وحصيلة الذي قلناه آنفاً: هي أنَّ المواد الحيوية المستحضرة بميزان القضاء والقدر للحكيم العليم في هذا العالم الكبير الذي هو صيدليةٌ ضخمة رائعة لا يمكن أن توجد إلّا بحكمةٍ لا حدّ لها، وبعلم لانهاية له، وبإرادة تشمل كل شيء وتحيط بكل شيء، وإلّا فما أشقاه من يتوهم «أن هذه الموجودات هي نتاج عناصر الكون الكلية» وهي العمياء الصماء في جريانها وتدفقها، أو هي «من شؤون طبائع المواد» أو «من عمل الأسباب المادية»!.

لاشك أن صاحب هذا الوهم هو أشقى أشقياء العالم، وأعظمُهم حماقة، وأشدّ هذياناً من هذيان مخمور فاقد للوعي عندما يخطر بباله أن ذلك الترياق العجيب قد أوجد نفسه بنفسه من جراء تصادم القناني وسيلان ما فيها!

نعم، إنَّ ذلك الكفر هذيانُ أحمقَ وجنونُ سكرانٍ.

المحال الثاني:  هو أنه إنْ لم يُسنَد خلقُ كل شيء إلى الواحد الأحد القدير ذي الجلال، وأُسند إلى الأسباب المادية، يلزم عندئذ أن يكون لأغلب عناصر العالم وأسبابه دخلٌ وتأثير في وجود كل ذي حياة.

والحال أن اجتماع الأسباب المتضادّة والمتباينة فيما بينها، بانتظام تام، وبميزان دقيق وباتفاق كامل في جسم مخلوق صغير -كالذباب مثلاً- هو محال ظاهر إلى حد يرفضه مَن له عقل بمقدار جناح ذبابة، ويُردّه قائلاً: هذا محال.. هذا باطل.. هذا غير ممكن..!

ذلك لأنَّ جسم الذباب الصغير ذو علاقة مع أغلب عناصر الكائنات، ومع مظاهرها وأسبابها المادية، بل هو خلاصة مستخلصة منها، فإن لم يُسنَد إيجادُه إلى القدرة الإلهية المطلقة، يلزم أن تكون تلك الأسبابُ المادية حاضرةً ومحتشدة جَنبَ ذلك الجسم مباشرة عند إيجاده، بل يلزم أن تدخل في جسمه الضئيل، بل يجب دخولُها في حجيرة العين التي تمثل نموذج الجسم، ذلك لأنَّ الأسباب إنْ كانت ماديةً يلزم أنْ تكون قرب المسبَّب وداخلةً فيه، وعندئذٍ يقتضي قبولُ دخول جميع العناصر في جميع أركان العالم مع طبائعها المتباينة في ذلك المسبّب دخولاً مادياً، وعملها في تلك الحجيرة المتناهية في الصغر بمهارة وإتقان أفلا يخجل ويستحي من هذا القول حتى أشد السوفسطائيين بلاهةً؟

المحال الثالث:  هو أنَّ الموجود إنْ كانت له وحدة واحدة، فلابدّ أن يكون صادراً من مؤثر واحد، ومن يدٍ واحدة، حسب مضمون القاعدة البديهية المقررة: «الواحد لا يصدر إلّا عن الواحد». فإن كان ذلك الموجود في غاية الانتظام والميزان، وفي منتهى الدقة والإتقان، وكان مالكاً لحياة جامعة، فمن البداهة أنه لم يصدر من أيدٍ متعددة قط -التي هي مدعاة الاختلاف والمنازعة- بل لابد أنه صادر من يد واحدة لواحد أحد قدير حكيم؛ لذا فإن إسناد الموجود، المنتظم، المتناسق، الموزون، الواحد، إلى أيدي الأسباب الطبيعية العمياء الصمّاء الجامدة غير المنضبطة، والتي لا شعور لها ولا عقل، وهي في اختلاط شديد يزيد من عماها وصممها، ثم الإدعاء بأن تلك الأسباب هي التي تقوم بخلق ذلك الموجود البديع واختياره من بين إمكاناتٍ واحتمالات لا حدّ لها، أقول إنَّ قبول هذا الإسناد والإدعاء هو -في الحقيقة- قبول لمائة محال ومحال، إذ هو بعيد كل البُعد عن جميع مقاييس العقل وموازينه..

دعنا نترك هذا المحال ونتجاوزه مؤقتاً، لننظر إلى تأثير «الأسباب المادية» الذي يتم بالتّماس والمباشرة. فبينما نرى أن تماسَّ تلك الأسباب الطبيعية هو تماسٌّ بظاهر الكائن الحي فحسب، ونرى أن باطن ذلك الكائن الذي لا تصل إليه أيدي تلك الأسباب المادية ولا يمكنها أن تمسّه بشيء، هو أدق نظاماً، وأكثر انسجاماً، من الظاهر، بل ألطفُ منه خلقاً وأكمل إتقاناً. بل الأحياء الصغيرة والمخلوقات الدقيقة التي لا يمكن أن تستوعب تلك الأسباب المادية قطعاً ولا تصل إليها أيديها ولا وسائلُها هي أعجبُ إتقاناً من أضخم المخلوقات وأبدع
خلقاً منها.

فلا يكون إذن إسناد خلقها إلى تلك الأسباب العمياء الصماء الجامدة الجاهلة الغليظة المتباعدة المتضادّة إلّا عمىً ما بعده عمىً، وصمماً ليس وراءه صمم.

أما المسألة الثانية:

وهي قولهم عن الشيء: «تشكّل بنفسه». فهي تنطوي على محالات كثيرة، ويتضح بطلانُها ومحاليتها من نواح كثيرة جداً إلّا أننا نتناول هنا ثلاثة محالات منها كنماذج ليس إلّا:

المحال الأول:  أيها الجاحد العنيد! إنَّ طغيان غرورك، جعلك تتردى في أحضان حماقة متناهية، فتقدِمُ على قبول مائة محال ومحال!

إنك أيها الجاحد العنيد موجودٌ بلا شك، وإنك لست من مادة بسيطة وجامدة تأبى التغيّر، بل أنت معمل عظيم متقن الصنع، أجهزتُه دائمة التجدد. وأنت كالقصر المنيف، أنحاؤه دائمة التحول.. فذراتُ وجودك أنت تعمل دوماً وتسعى دون توقف، وترتبط بوشائج وأواصر مع مظاهر الوجود في الكون من حولك، فهي في أخذ وعطاء مع الكائنات، وبخاصة من حيث الرزق، ومن حيث بقاء النوع.

إنَّ الذرات العاملة في جسدك تحتاط من أن تخل بتلك الروابط، وتتحاشى أن تنفصم تلك العلاقات، فهي حذرة في تصرفها هذا، وتتخذ موقفاً ملائماً لها على وفق تلك العلاقات كأنها تنظر إلى جميع الكائنات وتشاهدها، ثم تراقب موقعك أنت منها، وأنت بدورك تستفيد حسب ذلك الوضع الخارق لتلك الذرات وتنتفع وتتمتع بمشاعرك وحواسك الظاهرة والباطنة.

فإن لم تعتقد أن تلك الذرات موظفاتٌ صغيرات لدى القدير الأزلي، ومأموراتٌ مسخرات منقادات لقوانينه سبحانه، أو هي جنود مجندة في جيشه المنظم، أو هي نهاياتُ قلم القدر الإلهي، أو هي نقاط ينقطها قلم القدرة الإلهية.. لزمك أن تقول إنَّ لكل ذرة عاملة -في عينك مثلاً- عيناً واسعة بصيرة، ترى جميعَ أجزاء جسدك ونواحيه، وتشاهد جميعَ الكائنات التي ترتبط بها، وتعلم جميعَ ماضيك ومستقبلك، وتعرف أصلك وآباءك وأجدادك مع نسلك وأحفادك وتدرك منابع عناصرك، وكنوز رزقك.. فهي إذن ذات عقل جبار!!

فيا معطّل عقله في مثل هذه المسائل! أليس في إسناد هذا العلم والشعور والعقل الذي يسع ألفاً من مثل «أفلاطون» إلى ذرة في عقل مَن لا يملكه مثلك، خرافة خرقاء، وبلاهة بلهاء؟!.

المحال الثاني:  إنَّ جسمك أيها الإنسان يشبه قصراً فخماً عامراً، له من القباب ألف قُبَّةٍ وقُبَّة، وكل قُبَّةٍ من قبابه مُعَلقة فيها الأحجارُ، ومرصوصة بعضها إلى البعض الآخر في بناء محكَم دون عمد. بل إن وجودك -لو فكرت- هو أعجبُ من هذا القصر بألوف المرات، لأنَّ قصر جسمك أنت في تجدد مستمر يبلغ الكمال في الانتظام والروعة.

فلو صرفنا النظر عما تحمله من روح ومن قلب ومن لطائف معنوية وهي معجزةٌ بذاتها، وأخذنا بنظر الاعتبار والتفكر عضواً واحداً فقط من أي عضو كان من بين أعضاء جسدك نراه شبيهاً بمنزلٍ ذي قباب. فالذرات التي فيه قد تعاونَت وتعانقت بعضها مع البعض الآخر، في انتظام تام، وموازنة كاملة -كالأحجار في تلك القباب- وكونت بناءً خارقاً، وصنعة رائعة بديعة، فأظهرت للعيان معجزة عجيبة من معجزات القدرة الإلهية «كالعين واللسان» مثلاً.

فلو لم تكن هذه الذرات مأمورةً منقادة لأمر الصانع القدير، فإن كل ذرة منها إذن لابد أن تكون حاكمةً حُكماً مطلقاً على بقية ذرات الجسد ومحكومةً لها حُكماً مطلقاً كذلك، وأن تكون مثل كلٍ منها، وضدّ كل منها -من حيث الحاكمية- في الوقت نفسه وأن تكون مناط أغلب الصفات الجليلة التي لا يتصف بها إلّا الله سبحانه وتعالى، وأن تكون مقيدةً كلياً، وطليقةً كلياً في الوقت نفسه…

فالمصنوع الواحد المنتظم والمنسق الذي لا يمكن أن يكون -بسر الوحدة- إلّا أثراً من آثار الواحد الأحد محالٌ أن يُسند إلى تلك الذرات غير المحدودة، بل هو مائة محال في محال…! يدرك ذلك كل من له مِسكةٌ من عقل!

المحال الثالث:  إنْ لم يكن وجودُك هذا قد كتب بقلم الواحد الأحد القدير الأزلي، وكان مطبوعاً بمطابع الطبيعة والأسباب، فيلزم عندئذٍ وجود قوالب طبيعية بعددِ ألوف الألوف من المركبات المنتظمة العاملة في جسمك، والتي لا يحصرها العد، ابتداءً من أصغر الخلايا العاملة بدقة متناهية وانتهاءً بأوسع الأجهزة العاملة فيه.

ولفهم هذا المحال نأخذ الكتاب الذي بين أيدينا مثالاً، فنقول:

إنْ اعتقدتَ أنَّ هذا الكتاب مستنسخ باليد، فيكفي إذن لاستنساخه قلمٌ واحد، يُحرِّكه علمُ كاتبه ليدوّن به ما يشاء، ولكن إن لم يُعتقد أنه مستنسخ باليد ولم يُسند إلى قلم الكاتب، وافتُرِض أنه قد تشكّل بنفسه، أو أُسندت كتابتُه إلى الطبيعة، فيلزم عندئذٍ أن يكون لكل حرفٍ من حروفه قلمٌ معدني خاص به، ويكون عدد الأقلام بعدد تلك الحروف -بمثل وجود الحروف المعدنية في المطبعة والتي هي بعدد الحروف وأنماطها- أي يلزم وجودُ أقلام بعدد الحروف بدلاً من قلم واحد للاستنساخ، وقد يكون هناك في تلك الحروف، حروفٌ كبيرة مكتوب فيها بخط دقيق ما في صحيفة كاملة، فيلزم إذن لكتابة مثل هذه الحروف الكبيرة ألوف الأقلام الدقيقة.

والآن ماذا تقول لو كانت تلك الحروف متداخلةً بعضها بالبعض الآخر بانتظام كامل متخذةً هيأة جسدك وشكله؟! فيلزم عندئذٍ أن يكون لكل جزء من أجزاء كل دائرة من دوائره المذكورة قوالبُ عديدةٌ بعدد تلك المركبات التي لا يحصرها العدّ!

هَبْ أنك تقول لهذه الحالة المتضمنة لمائة محال في محال، أنها ممكنةَ الحدوث! فحتى في هذه الحالة -على فرض إمكانها- أفلا يلزم لصنع تلك الأقلام وعمل تلك القوالب والحروف المعدنية أقلامٌ وقوالب وحروفٌ بعددها لتصبّ وتسكب فيها إنْ لم يُسند صنعُها جميعاً إلى قلم واحد؟ ذلك لأنَّ جميعها مصنوعة ومحدثة منتظمة، ومفتقرة إلى صانع ليصنعها، ومُحدِثٍ ليحدثها، وهكذا الأمر يتسلسل كلما أوغلت فيه. فافهم من هذا مدى سقم هذا الفكر الذي يتضمن محالات وخرافات بعدد ذرات جسمك!

فيا أيها الجاحد… عُد إلى عقلك وانبذ هذه الضلالة المشينة!