«الكلمات الإلهية»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ اَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِه مَدَدًا(الكهف:109)

إنَّ هذه الآية اللطيفة بحرٌ واسع رفيع زاخرٌ باللآلئ والدرر، ينبغي لكتابة جواهرها النفيسة كتابةَ مجلد ضخم، لذا نعلّقها إلى وقت آخر بمشيئة الله. ولقد تراءى لي من بعيد شعاعٌ صدر من نكتة من نكاتها الدقيقة، فلَفتَ نظر فكري إليه بعد أذكار الصلاة التي أعدّها أفضلَ وقت لخطور الحقائق. إلّا أنني لم أتمكن من تسجيل تلك النكتة في حينه، فتباعد ذلك الشعاعُ كلما مرّ الزمان، فنذكر هنا بضعَ كلماتٍ لتخط حوله دوائر لاقتناص جلوة منها قبل أن يغيب كلياً ويتوارى عن الأنظار.

الكلمة الأولى:

إنَّ الكلام الأزلي صفة إلهية، كالعلم والقدرة، لذا فهو غيرُ محدد وغير متناهٍ، والذي لا نهاية له لا ينفد ولو كان البحر مداداً له.

الكلمة الثانية:

إنَّ أَظهرَ شيء للإشعار بوجود شخص ما هو تكلُّمُه، فهو أَقوى أثرٍ للدلالة عليه؛ إذ سماعُ كلام صادر من شخص ما، يثبت وجودَه إثباتاً يفوق ألف دليل، بل بدرجة الشهود. لذا فإن هذه الآية تقول بمعناها الإشاري:

لو كان البحر مداداً لعدّ الكلام الإلهي الدالّ على وجوده سبحانه وتعالى وكانت الأشجار أقلاماً تكتب ذلك العدد، ما نفد كلامُ الله. بمعنى أن ما يدل على الأحد الصمد -دلالة الكلام على المتكلم- لا يعدّ ولا يحصى ولا حدّ له، حتى لو كانت البحار مداداً له.

الكلمة الثالثة:

لما كان القرآن الكريم يرشد جميع الطبقات البشرية إلى حقائق الإيمان، يكرر ظاهراً الحقيقة الواحدة بمقتضى تقريرها في القلوب وتثبيتها في أفكار العامة وإقناعهم.

لذا فهذه الآية الكريمة جوابٌ ضمني لأهل العلم وعلماء اليهود من أهل الكتاب في ذلك الوقت، على اعتراضهم المُجحف الظالم ظلماً بيّناً على أُمية الرسول العظيم ﷺ وعلى قلة علمه.

فالآية تقول: إنَّ تكرار المسائل الجليلة التي لكل منها قيمةُ ألف مسألة وتتضمن ألوفاً من الحقائق -كما هي في مسائل الأركان الإيمانية- تكراراً معجزاً وبأساليب شتى، وإن تكرار حقيقة واحدة وهي تتضمن كثيراً جداً من النتائج من حيث الفوائد المتنوعة، لإقرارها في قلوب الناس كافة ولاسيما العوام.. هذا التكرار الذي تقتضيه حِكمٌ كثيرة -كالتقرير والإقناع والتحقيق- لا يعدّ حصراً للكلام ولا هو نابع من قصور الذهن ولا من قلة البضاعة وقصر الباع، بل لو كانت البحارُ مداداً، وذوو الشعور كتّاباً والنباتات أقلاماً، بل حتى الذرات لو كانت رؤوسَ أقلام وقامت كلُّها بعدّ كلمات الكلام الإلهي الأزلي، ما نفدت أيضاً، لأنَّ كل ما ذُكِر من أمور هي متناهية، وكلماتُ الله غير متناهية، وهي منبع القرآن الكريم المتوجه إلى عالم الشهادة من عالم الغيب مخاطباً الجن والإنس والملائكة والروحانيين، فيرنّ في أسماع كل فرد منهم. ولا غرو فهو النازل من خزينة الكلام الإلهي الذي لا ينفد.

الكلمة الرابعة:

من المعلوم أنَّ صدور كلامٍ مما لا يُتوقع منه الكلام، يمنح الكلامَ أهمية ويدفع إلى سماعه، ولاسيما الأصداء الشبيهة بالكلام، الصادرة من الأجسام الضخمة كالسحاب وجوّ السماء، فإنها تحمل كلَّ أحدٍ على سماعها باهتمام بالغ، وبخاصة النغمات التي يطلقها جهازٌ ضخم ضخامةَ الجبل فإنها تجلب الأسماع إليها أكثر. ولاسيما الصدى السماوي القرآني الذي يبث -بالراديو- فترنّ به السماوات العلى حتى تسمع هامة الكرة الأرضية برمّتها. فتصبح ذراتُ الهواء بمثابة لاقطات تلك الحروف القرآنية ومراكز بثّها. فتكون الذراتُ بمثابة المرايا العاكسة للأنوار والآذان الصاغية للأصداء، والألسنة الذاكرة لها، وكأنها نهايات إبر لجهاز حاكٍ عظيم تخرج الأصوات.

فالآية تبين رمزاً مدى أهمية الحروف القرآنية ومدى قيمتِها ومزاياها وكونها نابضةً بالحياة، فتقول بمعناها الإشاري: إنَّ القرآن الكريم الذي هو كلام الله، حيٌّ يتدفق بالحيوية، رفيعٌ سام إلى حدّ لا ينفد عدد الأسماع التي تنصت إليه ولا عدد الكلمات المقدسة التي تدخل تلك الأسماع.. لا تنفد تلك الأعداد حتى لو كانت البحار مداداً والملائكة كتّاباً لها والذرات نقاطاً والنباتات والشعور أقلاماً.

نعم، لا تنفد، لأنَّ الله سبحانه الذي يُكثر في الهواء عدد ما لا روحَ فيه ولا حياة من كلام الإنسان الضعيف، إلى الملايين فكيف بعدد كل كلمة من كلام رب السماوات والأرض الذي لا شريك له والمتوجّه إلى جميع ذوي الشعور في السماوات والأرضين.

الكلمة الخامسة:

عبارة عن حرفين:

الحرف الأول: كما أن لصفة الكلام كلماتٍ، كذلك لصفة القدرة كلماتٍ مجسمة. ولصفة العلم كلماتَ قَدَرية حكيمة وهي الموجودات ولاسيما الأحياء ولاسيما المخلوقات الصغيرة، فكلٌّ منها كلمةٌ ربانية بحيث تشير إلى المتكلم الأزلي إشارةً أقوى من الكلام. فهذه الآية الكريمة تومئ إلى هذا المعنى: إنَّ إحصاء عدد تلك المخلوقات لا ينفد حتى لو كانت البحارُ مداداً له.

الحرف الثاني: إنَّ جميع أنواع الإلهام الآتي إلى الملائكة والإنسان وحتى إلى الحيوانات، نوعٌ من كلام إلهي. فلا شك أنَّ كلمات هذا الكلام غير متناهية. فإن الآية الكريمة تخبرنا عن مدى كثرةِ ولا نهائية عدد كلمات الإلهام والأمر الإلهي الذي يستلهمه دوماً ما لا يعدّ ولا يحصى من جنود رب السماوات والأرض.

والعلم عند الله .. ولا يعلم الغيب إلّا الله


«إنزال الحديد»

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿وَاَنْزَلْنَا الْحَديدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (الحديد:25)

جواب مهم جداً ومختصر عن سؤال يخصّ هذه الآية الكريمة، طرحَه رجل له أهميته وعلى علم واسع، وألزم به بعضَ العلماء.

سؤال:

يقال: إنَّ الحديد يخرج من الأرض ولا ينـزل من السماء حتى يقال: «أنزلنا». فلِمَ لم يقل القرآن الكريم: «أخرجنا» بدلاً عن «أنزلنا» الذي لا يوافق الواقع ظاهراً؟

الجواب: إنَّ القرآن الكريم قد قال كلمة « أنزلنا» لأجل التنبيه إلى جهة النعمة العظيمة التي ينطوي عليها الحديد والتي لها أهميتُها في الحياة. فالقرآن الكريم لا يلفت الأنظار إلى مادة الحديد نفسِها ليقول «أخرجنا» بل يقول «أنزلنا» للتنبيه إلى النعمة العظيمة التي في الحديد وإلى مدى حاجة البشر إليه. وحيث إنَّ جهةَ النعمة لا تخرج من الأسفل إلى الأعلى بل تأتى من خزينة الرحمة، وخزينةُ الرحمة بلا شك عاليةٌ وفي مرتبة رفيعة معنىً، فلابد أن النعمة تنـزل من الأعلى إلى الأسفل، وأن مرتبة البشر المحتاج إليها في الأسفل، وأن الإنعامَ هو فوق الحاجة. ولهذا فالتعبير الحق الصائب لورود النعمة من جهة الرحمة إسعافاً لحاجة البشر هو: «أنزلنا» وليس «أخرجنا».

ولما كان الإخراجُ التدريجي يتم بيد البشر، فإن كلمة «الإخراج» لا يُشعر جهة النعمة ولا يجعلها محسوسةً بأنظار الغافلين.

نعم لو كانت مادة الحديد هي المرادة، فالتعبير يكون «الإخراج» باعتبار المكان المادي. ولكن صفات الحديد، والنعمة التي هي المعنى المقصود هنا، معنويتان؛ لذا لا يتوجه هذا المعنى إلى المكان المادي، بل إلى المرتبة المعنوية.

فالنعمة الآتية من خزينة الرحمة التي هي إحدى تجليات مراتب سمو الرحمن ورفعته غير المتناهية تُرسل من أعلى مقام إلى أسفل مرتبة بلا شك ؛ لذا فالتعبير الحق لهذا هو: «أنزلنا». والقرآن الكريم ينبّه البشر بهذا التعبير إلى أن الحديد نعمة إلهية عظيمة. نعم، إنَّ الحديد هو منشأُ جميع الصناعات البشرية ومنبعُ جميع رقيّها ومحور قوتها، فلأجل التذكير بهذه النعمة العظمى يذكر القرآن بكل عظمة وهيبة وفي مقام الامتنان والإنعام قائلاً: ﴿وَاَنْزَلْنَا الْحَديدَ فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ كما يعبّر عن أعظم معجزة لسيدنا داود عليه السلام بقوله تعالى: ﴿وَاَلَنَّا لَهُ الْحَديدَ﴾ (سبأ:10). أي أنه يبين تليين الحديد معجزة عظيمة ونعمة عظيمة لنبي عظيم.

ثانياً: إن «الأعلى» و «الأسفل» تعبيران نسبيان، فيكون الأعلى والأسفل بالنسبة إلى مركز الكرة الأرضية. حتى إنَّ الذي هو أسفل بالنسبة إلينا هو الأعلى بالنسبة لقارة أمريكا. بمعنى أن المواد الآتية من المركز إلى سطح الأرض تتغير أوضاعُها بالنسبة إلى مَن هم على سطح الأرض.

فالقرآن المعجز البيان يقول بلسان الإعجاز: إنَّ للحديد منافعَ كثيرة وفوائد واسعة، بحيث إنه ليس مادة اعتيادية تخرج من مخزن الأرض التي هي مسكن الإنسان، وليس هو معدناً فطرياً يستعمل في الحاجات كيفما اتفق. بل هو نعمةٌ عظيمة أنزلَها خالق الكون بصفته المهيبة «رب السماوات والأرض» أنزلها من خزينة الرحمة وهيأها في المصنع العظيم للكون، ليكون مداراً لحاجات سكنة الأرض. فعبّر عنه بالإنزال قائلاً ﴿وَاَنْزَلْنَا الْحَديدَ لأجل بيان المنافع العامة التي ينطوي عليها الحديد وفوائده الشاملة، كما للحركة والحرارة والضياء الآتي من السماء فوائد. تلك التي ترسل من مصنع الكون. فالحديد لا يخرج من المخازن الضيقة لكرة الأرض، بل هو في خزينة الرحمة التي هي في قصر الكون العظيم ثم أُرسل إلى الأرض ووضع في مخزنها كيما يمكن استخراجه من ذلك المخزن حسب حاجة العصور تدريجياً.

فلا يريد القرآن الكريم أن يبين استخراج الحديد هذا تدريجياً من هذا المخزن الصغير، الأرض. بل يريد أن يبين أن تلك النعمة العظمى قد أنزلت من الخزينة الكبرى للكون مع كرة الأرض، وذلك لإظهار أن الحديد أكثر ضرورة لخزينة الأرض. بحيث إن الخالق الجليل عندما فصل الأرضَ عن الشمس أنزل معها الحديد ليحقق أكثر حاجات البشر ويضمنها.

فالقرآن الحكيم يقول بإعجاز، ما معناه: أنجزوا بهذا الحديد أعمالكم واسعوا للاستفادة منه بإخراجه من باطن الأرض.

وهذه الآية الجليلة تبين نوعين من النعم التي هي محور لدفع الأعداء وجلب المنافع. ولقد شوهد تحقق منافع الحديد المهمة للبشرية قبل نزول القرآن، إلّا أن القرآن يبين أن الحديد سيكون في المستقبل في صور تحيّر العقول سيراً في البحر والهواء والأرض حتى إنه يسخّر الأرض ويظهر قوة خارقة تهدد بالموت، وذلك بقوله تعالى: ﴿فيهِ بَأْسٌ شَديدٌ﴾ مُظهراً لمعة إعجاز في إخبار غيبي.

* * *

عندما تطرق البحث عن النكتة السابقة انفتح الكلامُ حول هدهد سليمان. فيسأل أحدُ إخواننا الذي يلح في السؤال: (حاشية) هو «رأفت»؛ الغيور في طرح الأسئلة والمتكاسل في كتابة الرسائل. إن الهدهد يصف الخالق الكريم سبحانه بقوله:
﴿يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ(النمل:25) فما سبب ذكره في هذا المقام الجليل هذا الوصف الرقيق بالنسبة إلى الأوصاف الجليلة؟.

الجواب: إنَّ إحدى مزايا الكلام البليغ هو أن يُشعر الكلامُ صنعةَ المتكلم التي ينشغل بها. فهدهد سليمان الذي يمثل عريف الطيور والحيوانات كالبدوي العارف الذي يكشف بالفراسة الشبيهة بالكرامة مواضع الماء الخفية في صحراء جزيرة العرب الشحيحة بالماء. فهو طيرٌ ميمون مأمور بإيجاد الماء ويعمل عمل المهندس لدى سيدنا سليمان عليه السلام، فلذلك يُثبت بمقياسِ صنعتِه الدقيقة، كونَ الله معبوداً ومسجوداً له، بإخراجه سبحانه ما خبئ في السماوات والأرض، فيعرّف إثباته هذا بصنعته الدقيقة.

ألا ما أحسنَ رؤيةَ الهدهد! إذ ليس من مقتضى فطرة ما تحت التراب من المعادن والنوى والبذور التي لا تحصى، أن تخرج من الأسفل إلى الأعلى. لأنَّ الأجسام الثقيلة التي لا روح لها ولا اختيار لا تصعد بنفسها إلى الأعلى، وإنما تسقط من الأعلى إلى الأسفل. فإخراج جسم مخفي تحت التراب، من الأسفل إلى الأعلى ونفض التراب الثقيل الجسيم من على كاهله الجامد لابد أن يكون بقدرة خارقة لا بذاته. فأدرك الهدهد أخفى براهين كون الله تعالى معبوداً ومسجوداً له وكشفَها بعارفيته ووجَد أهم تلك البراهين بصنعته، والقرآن الحكيم منح إعجازاً بالتعبير عنه.