«توافق لطيف ذو مغزى»

إن المادة (163) من القانون التي يُتهم بموجبها طلاب النور، ويُطالب بها إنزال العقوبة عليهم. هذا الرقم يتوافق مع عدد النواب الذين وافقوا على لائحة البرلمان الخاصة بمنح مائة وخمسين ألف ليرة لبناء مدرسة مؤلِّف رسائل النور، وقد كانوا (163) نائباً من بين (200) نائباً في مجلس الأمة التركي.

هذا التوافق يقول معنىً: إن تواقيع (163) نائباً من نواب حكومة الجمهورية على وجه التقدير والإعجاب بخدمته يُبطل حكم المادة (163) بحقه.

وكذا من بين التوافقات اللطيفة ذات المغزى: أنه كان القبض على مؤلف رسائل النور وطلابه واعتقالهم في 27/نيسان/ 1935 بينما كان قرار المحكمة بحقهم في 19/آب/1935 أي بعد (115) يوماً. هذا الرقم يتوافق مع عدد كتب رسائل النور وهو (115) كتاباً يضم (128) رسالة.

كما أنه يوافق عدد المتهمين المائة وخمسة عشر من طلاب النور الذين استُجوبوا واتهموا

فهذا التوافق يدل على أن المصيبة التي ابتلي بها مؤلف رسائل النور وطلابها إنما تُنظّم بيدٍ من العناية (الإلهية). (حاشية) إنه جدير بالملاحظة أنه بدأ القبض على قسم من طلاب النور واعتقلوا في 25/نيسان/1935 وكان عدد الذين اتهموا بقرار المحكمة (117) شخصاً حيث كرر اسم اثنين منهم. فيتوافق بهذا عدد الطلاب (117) طالباً مع عدد أيام الاعتقال البالغ (117) يوماً اعتباراً من اعتقال ذلك القسم من الطلاب إلى يوم قرار المحكمة. فيمزج هذا التوافق لطافة أخرى إلى لطافة التوافقات السابقة.

* * *

النكتة الثامنة والعشرون من اللمعة الثامنة والعشرين

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿لَا يَسَّمَّعُونَ اِلَى الْمَلَاِ الْاَعْلٰى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍۗ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌۙ * اِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَاَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (الصافات:8-10)

  ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَٓاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطينِ (الملك:5)

سنبين نكتةً مهمة من نكات هذه الآيات الكريمة وأمثالها من الآيات لمناسبة اعتراض يرِد من أهل الضلالة على وجه النقد.

تفيد هذه الآيات الكريمة أنَّ جواسيسَ الجن والشياطين يسترقون السمعَ إلى أخبار السماوات ويجلبون منها الأخبار الغيبية إلى الكهان والماديين، والذين يعملون في تحضير الأرواح. فحيل بين هذه الإخبار وبين التجسس الدائمي لأولئك الجواسيس ورُجموا بالشهب في تلك الفترة بداية الوحي أزيد من سائر الأوقات، وذلك لئلا يلتبس شيء على الوحي.

نبين جواباً في غاية الاختصار عن سؤال في غاية الأهمية وهو ذو ثلاث شعب.

سؤال: يفهم من أمثال هذه الآيات الكريمة المتصدرة أنه لأجل استراق السمع وتلقي الخبر الغيبي حتى في الحوادث الجزئية بل أحياناً حوادث شخصية تقتحم جواسيس الشياطين مملكة السماوات التي هي في غاية البعد، لكأن تلك الحادثةَ الجزئية هي موضعُ بحث في كل جزء من أجزاء تلك المملكة الواسعة، ويمكن لأي شيطان كان، ومن أي مكان دخل إلى السماوات، التنصّت ولو بصورة مرقعة إلى ذلك الخبر وجلبه هكذا إلى الأرض. هذا المعنى الذي يُفهم من الآيات الكريمة لا يقبل به العقل والحكمة. ثم إنَّ قسماً من الأنبياء وهم أهل الرسالة، والأولياء وهم أهل الكرامة تسلموا ثمار الجنة التي هي فوق السماوات العلى -بنص الآية- وكأنهم يأخذونها من مكان قريب، وأحياناً يشاهدون الجنة من قريب. هذه المسألة تعني: نهاية البُعد في نهاية القُرب بحيث لا يسعها عقلُ هذا العصر.

ثم إن حالة من أحوال جزئية لشخص جزئي يكون موضع ذكر وكلام لدى الملأ الأعلى في السماوات العلى الواسعة جداً، هذه المسألة لا توافق إدارة الكون التي تسير في منتهى الحكمة.

علماً أن هذه المسائل الثلاث تعد من الحقائق الإسلامية.

الجواب: أولاً: إن الآية الكريمة: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَٓاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطينِ تفيد أن جواسيس الشياطين التي تحاول الصعود إلى السماوات للتجسس تُطرد بنجوم السماوات.

فقد بحثت هذه المسألة بحثاً جيداً في «الكلمة الخامسة عشرة»، وأُثبتت إثباتاً يقنع حتى أعتى الماديين، بل يلجؤهم إلى السكوت والقبول، وذلك بسبع مقدمات قاطعة هي بمثابة سبع مراتب للصعود إلى فهم الآية الكريمة.

ثانياً: نشير إلى هذه الحقائق الإسلامية الثلاث التي يُظن أنها بعيدة (عن العقل) بتمثيل وذلك لتقريبها إلى الأذهان القاصرة الضيقة.

هب أن الدائرةَ العسكرية لحكومةٍ تقع في شرقي البلاد، ودائرتَها العدلية في الغرب ودائرةَ المعارف في الشمال ودائرة الشؤون الدينية (المشيخة) في الجنوب، ودائرة الموظفين الإداريين في الوسط وهكذا. فعلى الرغم من البُعد بين دوائر هذه الحكومة، فإن كل دائرة لو استخبرت الأوضاع فيما بينها بالتلفون أو التلغراف ارتباطاً تاماً: عندها تكون البلادُ كلها كأنها دائرةٌ واحدة هي دائرة العدل، أو الدائرة العسكرية أو الدينية، أو الإدارية وهكذا.

مثال آخر: يحدث أحياناً أن دولاً متعددة ذات عواصم مختلفة، تشترك معاً في مملكة واحدة، بسلطات متباينة، من حيث مصالحها الاستعمارية فيها، أو لوجود امتيازات خاصة بها، أو من حيث المعاملات التجارية وغيرها. فكل حكومة عندئذ ترتبط بعلاقة مع تلك الرعية من حيث امتيازاتها، فعلى الرغم من أنها رعيةٌ واحدة وأمةٌ واحدة، فإن معاملات تلك الحكومات المتباينة -التي هي في غاية البعد- تتماسّ وتتقارب كلٌّ منها مع الأخرى في البيت الواحد بل تشترك في كل إنسان. حتى تُشاهد مسائلُها الجزئية في الدوائر الجزئية وهي نقاط التّماس والتقارب، ولا تؤخذ كلُّ مسألة جزئية من الدائرة الكلية. ولكن عندما تُبحث تلك المسائل الجزئية، تُبحث كأنها أُخذت من الدائرة الكلية وذلك لارتباطها بالقوانين الكلية لتلك الدائرة. وتعطى لها صورة كأنها مسألة أصبحت موضع بحث في تلك الدائرة الكلية.

وهكذا ففي ضوء هذين المثالين:

إن مملكة السماوات التي هي في غاية البعد، من حيث العاصمة والمركز، فإن لها هواتفَ معنوية تمتد منها إلى قلوب الناس في مملكة الأرض. فضلاً عن أن عالَم السماوات لا يشرف على العالم الجسماني وحده بل يتضمن عالم الأرواح وعالم الملكوت؛ لذا فعالمُ السماوات يحيط بجهةٍ بعالم الشهادة تحت ستار.

وكذلك الجنة التي هي من العوالم الباقية، وهي دارُ البقاء، فمع أنها في غاية البعد، إلّا أن دائرة تصرفاتها تمتد امتداداً نورانياً وتنتشر إلى كل جهة تحت ستار عالم الشهادة.

فكما أن حواسَّ الإنسان التي أودعها الصانع الحكيم الجليل بحكمته وبقدرته في رأس الإنسان، فعلى الرغم من أن مراكزها مختلفة، فإن كلاً منها تسيطر على الجسم كله، وتأخذه ضمن دائرة تصرفها. كذلك الكون الذي هو إنسان أكبر يضم ألوف العوالم الشبيهة بالدوائر المتداخلة. فالأحوال الجارية في تلك العوالم والحوادث التي تقع فيها تكون موضع النظر من حيث جزئياتها وكلياتها، وخصوصياتها وعظمتها. بمعنى أن الجزئيات تُشاهَد في الأماكن الجزئية والقريبة، بينما الكليات والأمور العظيمة تُرى في المقامات الكلية والعظيمة.

ولكن قد تستولي حادثةٌ جزئية خصوصية على عالم عظيم فأينما يُلقى السمع تُسمع تلك الحادثة. وأحياناً تحشّد الجنود الهائلة إظهاراً للعظمة والهيبة وليس لقوة العدو. فمثلاً: إن حادثةَ الرسالة المحمدية، ونزول الوحي القرآني، لكونها حادثةٌ جليلة، فإن عالم السماوات كله، بل حتى كل زاوية من زواياه متأهب، وقد صفّت فيه الحراس، في تلك البروج العظيمة، من تلك السماوات العالية الرفيعة والبعيدة بعداً عظيماً. ويقذفون من النجوم المجانيق، طرداً لجواسيس الشياطين ودفعاً بهم عن السماوات. فالآية الكريمة عندما تُبرز المسألة هكذا برجم الشياطين بكثرة هائلة والقذف بالشهب ولاسيما في بداية الوحي في ذلك الوقت. تبين إشارةً ربانيةً إلى الإعلان عن درجة عظمة الوحي القرآني وشعشعة سلطانه، وإلى درجة أحقيته وصوابه والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهكذا يترجم القرآنُ الكريم ذلك الإعلان الكوني العظيم ويشير إلى تلك الإشارات السماوية.

نعم، إنَّ إظهار هذه الإشارات العظيمة السماوية، وإبراز مبارزة الشياطين للملائكة، مع إمكان طردِ جواسيس الشياطين بنفخٍ من مَلَك، إنما هو لإظهار عظمة الوحي القرآني وعلوه ورفعته. ثم إنَّ هذا البيان القرآني المهيب، وإظهار الحشود السماوية العظيمة، ليس تعبيراً عن أن للجن والشياطين قوةً واقتداراً بحيث تسوق أهلَ السماوات إلى المبارزة والمدافعة معهم، بل هي إشارةٌ إلى أنه لا دخل للشياطين والجن في أي موضع من مواضع هذا الطريق الطويل الممتد من قلب الرسول الأعظم ﷺ إلى عالم السماوات إلى العرش الأعظم.

وبهذا يعبّر القرآن الكريم عن أن الوحي القرآني حقيقةٌ جليلة حقيقٌ أن يكون موضع ذكر وبحث لدى الملأ الأعلى والملائكة كلهم في تلك السماوات الهائلة، بحيث يضطر الشياطين إلى الصعود إلى السماوات لينالوا شيئاً من إخبارها فيُرجَمون ولا ينالون شيئاً فيشير القرآن الكريم بهذا الرجم إلى أن الوحي القرآني النازل على قلب محمد ﷺ، وجبرائيل عليه السلام الذي نزل إلى مجلسه والحقائق الغيبية المشهودة لنظره، سليمة، صائبة، صحيحة، لا تدخل فيها شبهةٌ قط وفي أية جهة منها قط. وهكذا يعبّر القرآن الكريم عن هذه المسألة بإعجازه البليغ.

أما مشاهدة الجنة في أقرب الأماكن وقطف الثمار منها أحياناً، مع كونها بعيدة كل البعد عنا وكونها من عالم البقاء، فبدلالة التمثيلين السابقين يُفهم. أنَّ هذا العالمَ الفاني، عالم الشهادة، حجابٌ لعالم الغيب وعالم البقاء. إنه يمكن رؤية الجنة في كل جهة مع أن مركزها العظيم في مكان بعيد جداً، وذلك بوساطة مرآة عالم المثال. ويمكن أيضاً بوساطة الإيمان البالغ درجة حق اليقين أن تكون للجنّة دوائر ومستعمرات (لا مشاحة في الأمثال) في هذا العالم الفاني ويمكن أن تكون هناك مخابرات واتصالات معها بالأرواح الرفيعة وبهاتف القلب ويمكن أن ترد منها الثمار.

أما انشغال دائرة كلية بحادثة شخصية جزئية، أي ما ورد في التفاسير من أن الشياطين يصعدون إلى السماوات ويسترقون السمع هناك ويأتون بأخبار غيبية ملفقة للكهان، فينبغي أن تكون حقيقته هكذا: إنه لا صعود إلى عاصمة عالم السماوات لتلقي ذلك الخبر الجزئي، بل هو صعود إلى بعض المواقع الجزئية في جو الهواء -الذي يشمله معنى السماوات- والذي فيه مواضعَ بمثابة مخافر (لا مشاحة في الأمثال) للسماوات، وتقع علاقاتٌ في هذه المواقع الجزئية مع مملكة الأرض. فالشياطين يسترقون السمعَ في تلك المواقع الجزئية لتلقي الأحداث الجزئية، حتى إن قلب الإنسان هو أحدُ تلك المقامات حيث يبارز فيه ملكُ الإلهام الشيطانَ الخاص.

أما حقائق القرآن والإيمان وحوادث الرسول ﷺ، فمهما كانت جزئية فهي بمثابة أعظم حادثة وأجلّها في دائرة السماوات وفي العرش الأعظم. حتى كأنها تنشر في الصحف المعنوية للمقدرات الإلهية الكونية (لا مشاحة في الأمثال) بحيث يذكر عنها ويبحث مسائلها في كل زاوية من زوايا السماوات، حيث إنه ابتداءً من قلب الرسول الكريم ﷺ وانتهاءً إلى دائرة العرش الأعظم مصونٌ من أي تدخل كان من الشياطين.

فإن القرآن مع بيانه لهذا إنما يعبّر بتلك الآيات الجليلة أنه: لا حيلة ولا وسيلة للشيطان لتلقى أخبار السماوات إلّا استراق السمع.

فيبين القرآن بهذا بياناً معجزاً بليغاً: ما أعظمَ الوحي القرآني وما أعظمَ قدرَه! وما أصدق نبوة محمد ﷺ وما أصوبَها! حتى لا يمكن الدنو إليهما بأية شبهة كانت وبأي شكل من الأشكال.

سعيد النُّورْسِيّ